الخميس 16 نيسان 1998
– 43 –
أخيراً مؤلفاته الكاملة في مجموعة واحدة.
ناثر العبق الجميل في أدبنا اللبناني، ها عقبه كلّه في قمقم واحد مكثّف الأرج، أنيق الشكل، بسيط المظهر، مكتنز كلماته نثراً وشعراً وحقوقيات.
أنطون قازان، بعد طبعتين لنثره وشعره متعثرتين طباعةً وشكلاً وإخراجاً، ها هو أخيراً في طبعة كاملة لمجموعته الكاملة في ستة أجزاء (ثلاثة لنثره، جزء لشعره، جزء لأبحاثه الحقوقية، وجزء لأبرز ما قيل فيه).
في اليوبيل الفضي لغيابه (10 آذار 1973)، ليس ما نتذكره به بعد خمس وعشرين لرحيله، أفضل من أن نجمعه كلّه في مكتبتنا، داخل علبة أنيقة تحوي أجزاءه الستة.
أنطون قازان، بعد رُبع قرن على غيابه، ما زال يشدّنا إليه أسلوب لديه جذّاب الصياغة، أنيقها، على نقاء في الإيصال ودقّة في الجرعات الجمالية تحميه من الانزلاق إلى الصناعة اللفظية المجانية، أو المنبرية الخطابية الطنانة.
ومع ذلك، كان يكتب بمهجر الصيدلي، ويخطب بميزان الجوهرجي، ويتأنّق في الصياغة حتَّى تقطير العبارة من نقطة الندى أو من قطرة الينبوع.
هذا الهمّ العالي إلى الجماليا، براعة لبنانية في ألدب، لم تؤتَ لغير لبنان، ونادراً ما تعاطاها كاتب ولم يقع في اللفظية أو الصنعة البرّانية.
صفحة واحدة من أمين نخلة (“المفكرة الريفية”) أو أنطون غطاس كرم (“كتاب عبدالله”) أو سعيد عقل (“لبنان إن حكى”) أو فؤاد سليمان (“درب القمر”)، أو أنطون قازان (“أدب وأدباء”)، وتكون سكرة اللذة في القراءة، والمتعة في المتابعة، وتذوّق الحلاوة في جرعات الأدب.
لا أظن الأدب الحديث بالعربية، عرف هذه اللذاذات في المذاق، حبّة حبّة، أو تلمّظاً أثيرياً، كما في صفحات هؤلاء المحميزين الذين تصفّى أدبهم حتَّى هدلة الحرير، وحتَّى بات عصياً على الانتهاج، لو حاول كاتب أن يقطف من هذا القاموس أو أن يسلك هذا الأسلوب.
أنطوان قازان، من ندرة خاصة، ذات قماشة خاصة، وكأنما لشرحة خاصة من القرّاء، تَميّز المفردة المختارة، وموقعها المختار، وجرسها المختار حين تسمعها العين القارئة أو تتذوقها الأذن على منبر.
ومن أهمية أنطون قازان- وكثير من كتاباتهم وضعه لمناسبات ظرفية وتلبية لنداء منبر- أنه جعل الكلام فيها أوسع من المناسبة وأعلى من ظرف التلبية، حتَّى لنقرأ قطعته اليوم فلا نشعر بمرور الزمن على المكان والزمان، لأنه كان يصهر المناسبة بالمضون، ومضمونه غير آني، لأنه طالع من إيمانه بأن أدب المناسبات إن لم يكن جمالاً لا يذوي، ذوى مع المناسبة وأصحابها.
هكذا نقرأ اليوم مقدّمات أنطون قازان لمحاضرات سعيد عقل أو غسان تويني أو الإمام موسى الصدر، وهكذا نتذوّق حتَّى اليوم منبرياته التي زال وهجها المنبري وزال كثير من أصحابها، وما زال قول أنطون فيها نابضاً بالجماليا.
هذا الآتي إلى الأدب من المحاماة، أو الذاهب إلى المحاماة من الأدب، كان يجد دوماً متسعاً بين الملف والملف، ليحفر كلمة يلقيها، أو ينحت محاضرة يعطيها، أو يجوهر قطعة أدبية تبيت بعدها مرجعاً. فهل يمكن اليوم الكلام على أبو شبكة، دون المرور بما كتبه عنه أنطون؟
“نصف شعري كان كي يقرأ…” قال فيه سعيد عقل. وحين يكون نصف شعر سعيد عقل مرصوداً لمجهر أنطون قازان، يكون كل أنطون قازان مرصوداً في مكتبتنا حبّات لؤلؤ موشورية نتمرّى في شعاعاتها، لا نرتوي من قصادة النبع، ولا نشبع من زيارة الدوالي و”مزمرة” العناقيد.
شكراً لـ”دار المراد” على تأنيها في إصدار هذه المجموعة الأنيقة، وشكراً للمحامي شوقي قازان على انصرافه منذ ربع قرن حتَّى اليوم إلى الاهتمام بإرث عمّه الأنطون، حتَّى تكون لنا في هذه المجموعة محطّة مضيئة وجميلة في أدبنا اللبناني.