السبت 4 تشرين الأول 1997
– 25 –
كان ذلك في ليلة صافية من أيلول 1987، وكنا نتمشى على الطريق المتأفعن بين بكفيا والمحدثية، ووليد صيفئذ في زيارة إلى لبنان، لأمسية في “بيت المستقبل”، يقدّم فيها جديداً صدر في ما بعد على أسطوانة.
وعلى أنغام قمر موسيقي كان يرافقنا فوق، في السماء اللبنانية الصافية، التفت إليّ وليد، راجعاً من سهوه المبدع، وقال: لم أوفق بعد إلى مكان مغاير لتقديم أمسية مغايرة… تعبت من تقديم على مسارح كبرى في حفلات كبرى”.
ورحنا نستعرض: مسرح جبيل، قلعة فقرا، شاطئ صيدا أو صور، ثم… وكما بكشف جاءه، أشرقت عيناه، توقف عن المشي، انتصبت قليلاً قامته الملتوية، وانفتحت كتفاه المطبقتان من احديداب على البيانو، وقال:
– فوق كارايان… وجدتها… فون كارايان قاد أمسية في جعيتا. ماذا عن جعيتا الفوقا يا هنري؟
كانت الفكرة لا أقلّ من كشف جميل! ولكن جعيتا 1987 حلم كان ليلتئذ يوتوبيا تبقى في البال أمنية بعيدة، فجعيتا خراب، والدرب إليها يباب، والمغارة الفوقا كالمغارة التحتا مهجورة إلاّ من … رعب الحرب.
وبقيت في باله الفكرة حلماً للتحقيق، والمبدعون عنوانهم: حلم يتحقق.
وقبل أيام: حفلة 19 أيلول لوليد في جعيتا. وكان مرّ زمن لم ألتقِ فيه وليد، إلاّ عبر اتصالات كنا نتبادلها خلال إقامتي المقهورة في المنأى الأميركي الموقت على بحيرة الليمون في فلوريدا.
فرحت لقراءتي الإعلان. وعادت إلى بالي لحظات تلك الأمسية الأيلولية قبل عشر، وعاد إليّ حلم وليد خلالها بالعزف في جعيتا.
وفرحت له يتحقق حلمه القديم بالعزف في المكان نفسه الذي شهد هوشلة شعر العبقري فون كارايان.
أيلول 1987- أيلول 1997.
عشر بإيامها ولياليها، قلت، حتَّى تحقق حلم وليد، مبروك يا وليد.
ثم أعلن الإعلام تأجيل الأمسية لدخول وليد المستشفى. شفاك الله يا وليد و… عد إلينا، نلاقيك في جعيتا.
ثُمّ كان النعي الذي عصر قلبي، وليد لن يأتي إلى جعيتا، ولا إلى المحيدثة، ولا إلى لبنان بعد اليوم، توقفت أصابعه الذهبية عن العزف، لأن قلبه توقف عن النبض.
القلب العاشق أبداً على نبض عينين ساهمتين ولهفة طفولية في الاكتشاف، توقف تحت مبضع الجراحين.
وانكسرت نوطة على ملامس البيانو وسكت البيانو.
وذلك الحلم على طريق المحيدثة، تلك الأمسية الأيلولية، سيبقى حلماً يوتوبياً لن يتحقق.
وستبقى جعيتا تنتظر نقطة من مياه هوابطها تسقط على ملمس بيانو ينتظر…
ينتظر وصول مبدع لبناني، بقامته المحدودبة قليلاً وشعره المهوشل وأنامله الذهبية، يصل، يجلس إلى الكرسي، يلمس النوطة المكسورة، فيعود البيانو إلى النغم، وتبدأ السمفونيا وتسيح عيون الجمهور، وتضاء مغارة جعيتا الفوقا على أنامل لا تعود تتوقف، حتى ولو ناء بسرعة إيقاعاتها ذلك القلب الكبير.