27 كانون الثاني 2009 العدد 12810 السنة 37
بعد انتخاب جون كيندي الرئيس الحادي والثلاثين على الولايات المتحدة (1960) طلب من والده جوزف أن يتّصل بصديق عمره الشاعر روبرت فروست (1874-1963) يسأله كتابةَ قصيدةٍ يُلقيها في احتفال تنصيب الرئيس. اعتذر فروست من صديقه جوزف بعبارته الشهيرة: “ابنك رئيس أميركا ست سنوات، وأنا شاعرُ أميركا كل العمر”. ورفض المشاركة. وتحت إلحاح الرئيس المنتخَب على والده، عاد هذا يرجو صديقه الشاعر ألاّ يرفض هذا الطلب (الجديد من نوعه يومها) أن يُلقي شاعرُ أميركا الوطني قصيدةً في احتفال تنصيب الرئيس. وأخيراً رضي فروست فحمل سنواته الست والثمانين وجاء الى ساحة واشنطن الكبرى (20/1/1961) وأَلقى قصيدته “التفاني”، والى جانبه الرئيس الشاب المنتخب.
وبعد انتخاب بيل كلنتون الرئيس الثاني والأَربعين (1992)، وكان شديد التأَثُّر بسلفه جون كيندي، طَلَب من الشاعرة الأميركية مايا أنْجلو (1928) أن تلقي قصيدة في احتفال تنصيبه، فجاءت الى الساحة نفسها (20/1/1993) وألْقت قصيدتها “على نبْض الصباح”.
وبعد انتخاب باراك أوباما الرئيس الرابع والأربعين (2008)، وكما ليواصل، كَسَلَفَيه كيندي وكلنتون، أهمية الشعر والأدب في مسيرة الحُكْم، طَلب من الشاعرة الأميركية إليزابيت ألكسندر (1963) أن تلقي قصيدة في احتفال تنصيبه، فجاءت الى تلك الساحة (20/1/2009) وألْقت قصيدتَها “أغنية تسبيح للنهار”.
الشاهد الأوّل من هذه النماذج الثلاثة أن قصائدهم لم تأتِ على ذكْر الرئيس الواقف الى جانبهم، والذي كان هو من طلَب منهم إلقاء قصائدهم في هذا النهار التاريخي أمام مئات الآلاف في الساحة، ومئات مَحطات الإذاعة والتلفزيون في العالم، وهي فرصةٌ لا تعطى لشاعر يُمضي عادةً حياته كلَّها يَحلم بإيصال شعره الى أوسع مساحة من متلقّيه، ولا تُعطى لِحاكمٍ يُمضي سنواتِ حكْمه يَحلم بإيصال المديح فيه الى شعبه وأزلامه ومَحاسيبه.
والشاهد الثاني ليس الحكم على النسيج الشعري لتلك القصائد (روعة قصيدة فروست، والتماعات قصيدة مايا أنجلو، ونثرية قصيدة ألكسندر)، فليس هنا مكان الحكْم عليها، إنّما للدلالة على أن أولئك الشعراء لَم يتَحدّثوا في قصائدهم عن الحاكم بل عن الوطن، الوطن الإنسان، الوطن الأرض، الوطن التاريخ، الوطن التراث.
والشاهد الثالث ليس التشبُّه بالأميركان و”ديمقراطيّتهم” التي نتابعها بـ”أوتوقراطيتها” السافرة و”توتاليتاريَّتها” المقنَّعة و”استعراضاتهم” الكاوْبُوْوِيَّة وراء ستارة العفوية والشعبية والجماهيرية، ولكنّ الذي نألفه في هذا العالَم العربي، أنّ معظم الحكام يستقبلون (لا يستدْعون ولا يطلبون) معظم الشعراء لتقريظهم ومدحهم والتحوُّل الى شعراء بلاط تماماً كموظفي الحاشية المأجورين، وتماماً كما أيام الخلفاء والأمراء والملوك في العصور القديمة والوسيطة، ويَحصل أحياناً (على نُدرة هذه الـ”أَحياناً”) أن يتغيَّر الحاكم (يطيحه انقلاب أو موت) فيطيح معه شعراء البلاط ويصبحون “شعراء العهد البائد”.
الشاهد الأخير أنّ الحاكم زائلٌ مهما كان، والشعرَ باق أياً كان. وإذا كان تنصيبُ رئيس أكبر دولة في العالم لم يستاهل من الشعر الأميركي سطْراً واحداً بل الذي استاهل هو الوطن الأميركي، فالأحرى بالشعر العربي أن يتخلَّص من “شعراء البلاط” فتكون “الديمقراطية” الأميركية (على دكتاتوريتها) نَموذج “أوتوقراطية” شعرية يَحتذيها الشعراءُ العرب كي يعوا أن الشعر لا يليق إلاّ للوطن والشعب، ولا يستاهل أيُّ حاكمٍ في الدنيا ذِكْراً واحداً في بيت شاعر.