ركَّزتُ تواليًا في حلقاتي الماضية على مفهوم الوطن، خالدًا ثابتًا متواصلًا في الزمان، أَعلى من اليوميات الزائلة العابرة في مجرى الأَيام، وأَشرتُ توازيًا إِلى أَن الدولة تدُول وحُكْمَها يزُول، ويظلُّ الوطن بأَعلامه خالدًا لا يدُول ولا يزُول. وكرَّرتُ ذلك حتى بدا كلامي مُعْليًا شأْنَ الوطن ومسْقِطًا شأْن الدولة… أَبدًا لم يكن ذلك قصدي ولا هو في رؤْيتي. بل على العكس تمامًا: أُريد للدولة شأْنًا عاليًا على مستوى الوطن، كي تأْخذ منه هَيبَتَها فيمنحَها الرضا الذي يعطيها هُويَّتها الحضارية.
بلى: أَنا كمواطن عاديّ، أُريد لدولتي أَن تكون قويةً، حازمة، حاسمة، ناظمة، عازمة، تغطِّيني بأَمانها، تحميني بسُلطتها، وتُعطيني نور الهداية الآمِنَ إِلى مستقبلي في الوطن.
غير أَنني، حين أُسقِطُ الدولةَ وأُعْلي الوطن، أَقصِد دولتَنا الحالية التي شوَّهت صورة الوطن على أَرضه وفي العالم. فالوطن شعبٌ على أَرض، ويبقى شعبُه شعبَه في كل أَرض يطأُها مستوطنًا غير أَرضه.
ولأَنني أَرى أَن الدولة هيئة معنوية لا تتجسَّد ماديًّا إِلَّا برجال سلطة يُديرون شؤُونها، أُسْقِطُ من شأْن دولتنا لأَقصِد رجالها الذين بسياستهم العقيمة وإِدارتهم الفاشلة ورؤْيتهم الساقطة أَسقطوا الدولة اللبنانية إِلى أَدنى مراتب العُقم والفقر والإِذلال والاستغلال فباتت الدولة بسببهم مزرعة أَو عشيرة أَو قبيلة لا نظامَ لها ولا فيها انتظام.
الدولةُ التي أُريدها وأُجِلُّها وأَنضوي تحت جناحيها هي التي ساستُها في خدمة الدولة لا في خدمة مصالحهم، وتاليًا يحزمون في وقْف الهدر والسرقات، وفي اتِّباع الدستور والأَنظمة والنُظُم والقوانين فلا يخترقونها ولا يُحوِّرونها على قياسهم، ويفرضون الشفافية المطلقة فيحترمون مجلسَ الخدمة المدنية والتنظيمَ الـمُدُني والتفتيشَ المركزي ومؤَسسات الرقابة، ولا يحشُرون أَزلامهم عشوائيًّا، ويَختصرون مخصَّصات النواب والنواب السابقين فليس من نائب حالي أَو سابق أَوقَف أَشغاله الأُخرى فيما كان يتقاضى مخصَّصاته من أَموال الشعب.
الدولةُ التي أُريدها وأُجِلُّها وأَنضوي تحت جناحيها، هي التي يُطوِّرها ساسةُ سلطتها باستمرار. فلبنانُ الذي كان زهْوة الشرق قبل نصف قرن، فيما محيطه يحسده ويتطلَّع إِلى التشبُّه به، بات اليوم تاعسًا بسبب قيادة سياسييه الفاجرين، فيما بات محيطه متطوِّرًا يسابق بعضه أَرقى دول العالم.
الدولة التي أُريدها وأُجِلُّها وأَنضوي تحت جناحيها، هي التي تَـهَبني ولا تنهَبُني، هي التي تَحميني ولا تُؤْويني، هي التي أَهرب إِليها ولا أَهرب منها، هي التي أَعتزُّ بها ولا أَعزُّ عنها، هي التي تقتطع من دَخْلي ضريبة تُحسِّن بها وضعي فتؤَمِّن لي ضمان شيخوخة وضمان نهاية الخدمة وضماني الصحي والاجتماعي وتؤَمِّن لي قضاءً يحميني وقانونًا يضمَنُني ودستورًا أَطمئنُّ أَن أَنتمي إِليه.
أَمَّا وكل هذا لا تُؤَمِّنه لي دولةٌ منخورةٌ بفساد أَركانها وفاسدي أَزلامها، فإِنني، أَنا مواطنها العادي، لا أَجد انتمائي إِلَّا إِلى لبنان الوطن الدائم الثابت الخالد وإِلى أَعلامه الخالدين، في انتظار أَن يسخو القدر على هذا الوطن الخالد برجال دولة يستحقُّون لا أَن يحكُموا شعبَ لبنان بل أَن يحتكِموا إِلى الشعب فيكونوا خُدَّامًا مخْلصين لكل فرد مخْلصٍ في شعب لبنان.
هـنـري زغـيـب