لامني أَصدقاء على حلقتي، الأَحد الماضي، واجدين فيها قسوةً على رئيس وزراء الدولة اللبنانية إِبان مؤْتمر القمة العربية في الجزائر بخطاب بكى فيه لبنان ونَعى منارة لبنان وتباكى مستجديًا نجدة العرب ومساعداتهم وهباتهم وإِعاشاتهم لشعب صوَّره يتضوَّر جوعًا وبعض مَوات.
طبعًا لم أَقصِد الشخص في كلمتي بل كلمتَه التي صوَّرَتْ لبنان مشوَّهًا مريضًا يستدعي الشفقة والإِحسان والزكاة. ولكان الأَمر أَقلَّ أذًى لو اقتصر على الحاضرين من قادة العرب، لكنه توزَّع على العالم صحافيًّا وإِعلاميًّا لِيَسْتَهْوِلَ العالَـمُ ما يَجري في لبنان بشهادة شاهدٍ من أَهله.
ماذا لو كان قال إِن معظم القادة العرب في الأَربعينات والخمسينات كانوا من خرِّيجي الجامعة الأَميركية في بيروت؟
ماذا لو قال لهم إِن بيروت شهِدَت أَول مدرسة حقوق في الشرق، وإِن جامعات لبنان الكبرى تُخَرِّجُ أَجيالًا يتلقَّفها العالم لعبقرية صبايانا وشباننا يُبدعون أَينما يحلُّون ويعتزُّون بأَنهم خرِّيجو كبرى جامعات لبنان؟
ماذا لو انه صرف سطرَين من كلمته ليُخبرَ عن بيروت وأَهمية بيروت للكتَّاب العرب والرسامين العرب والمفكِّرين العرب والشعراء العرب، وجميعُهم كانت بيروت لهم منصةَ انطلاق لنتاجهم الأَدبي والفني والفكري؟
ماذا لو كان قال لهم إِن القرآن الكريم يُطبَع بملايين النُسَخ سنويًا في ضيعة تدعى درعون حريصا، على بُعد أَمتار من تمثال سيِّدة لبنان شفيعة اللبنانيين ومَن يقصِدها من الضيوف العرب؟
ماذا لو قال لهم إِن الدولة اللبنانية تكسَّرت بسبب سياسييها لكنَّ الحركة الثقافية في لبنان ناشطةٌ بمعارض الكتب واللوحات، وبالندوات الفكرية والفنية، وبأُمسيات موسيقية، وبأَنشطة تشكِّل مقاومةً ثقافية بجمهور مثقف ينفصل عن دولة السياسيين بل يَهزأُ بها بل يَقْرَفُ منها بل يطرُدها من يومياته لكي ينصرف إِلى ما هو أَهمُّ في وطن الثقافة لبنان.
ماذا لو قال لهم إِن شعب لبنان يحترق في نار سياسييه اللامسؤُولين، المنهمِكين بشخصانياتهم ومصالحهم ورئاسياتهم بعيدًا عن واقع الشعب الذي يَخونُونَه يوضاسيًّا كلَّ يوم؟
ماذا لو قال لهم إِن صورة لبنان الحقيقيةَ في العالم ليست ما يخرج إِلى العالم من منصات الإِعلام بل هي ما يَشهد إِكبارًا له العالم من روائع الإِبداع اللبناني بصوت الخالدة فيروز وأَعمال الأخوين رحباني ومسرح كركلَّا العالمي وكوكبةٍ ساطعة مباركة من مبدعين لبنانيين هم الذين يشكِّلون لبنان الحقيقي، وليس لبنان ذاك الذي جعلَه حُكَّامه باكيًا مُشرَّدًا شحّادًا على أَرصفة الدُوَل.
ماذا لو قال لهم إِن لبنان ضئيل الجغرافيا قليل الديموغرافيا إنما جليل الإِبداعوغرافيا التي يسجِّلها يوميًا شعبُه الخلاق المكافح بعزَّة وكرامة وهوية لبنانية ترفض أَن تُذَلَّ في عيون العالم وأَن يُشْفقَ عليها العالم بعدما كان معجبًا بالعبقرية اللبنانية المتفرِّدة.
ماذا لو قال كلَّ هذا، لا ليعرفَه قادةُ العرب فبَضُعهم يعرفون بعضه، وإِنما ليَنتشِرَ ذلك إِعلاميًّا فيعرفَ العالم ما لم يكُن يعرفُه عن لبنان وفرادة لبنان؟
الأَصدقاء الذين لاموني على حلقة الأَحد الماضي وبأَنني قسوتُ على سياسيٍّ لبنانيٍّ لم يقدِّم لبنانَ الحضاري قبل وضع لبنان السياسي، فليعرفوا أَن سياسيين يعرفون من لبنان قوقعةَ بوانتاجاتهم الانتخابية فقط ولا يَعرفون لبنان الحضارة، ليسوا يستحقون لبنانَ، ولا أَن يحكُموا يومًا واحدًا شعبَ لبنان اللبناني.
هـنـري زغـيـب