“برهةٌ بعدُ، هنيهةُ راحةٍ في قلب الريح، وتَـحبَل بيَ امرأَة جديدة“.
قالها… وخَتَم “النبي”.
سوى أَنه، لحظةَ أَغمض عينيه تلك الليلةَ الحاسمة (الساعة 10:55 في عتمة الجمعة 10 نيسان 1931 على سرير مستشفى القديس ڤنسنت في نيويورك) كان يُدرك، حتمًا كان يُدرك، أَنه يموت ليلتَها ليولدَ من جديد كلَّ نهار وكلَّ ليلة.
وتلك “الجديدةُ” التي قالها ستَحبَل به، ليست امرأَة ذاتَ رحم بل هي الحياةُ ذاتُ الأَرحام المتجدِّدة حسْبَما ترى أَن المبدع يستحقُّ أَن يبقى حيًّا بعد غيابه.
وها جبران استحقَّ ولا يزال.
حتى اليوم؟ طبعًا حتى اليوم وكلِّ يوم.
ها هي المملكة العربية السعودية أَصدرَت قبل أَشهر طابعًا بريديًّا عنه. وفي البرازيل طابع عنه استعملتْه شركة اللوتو البرازيلية. وقبل أَسابيع أَصدرت الإِمارات العربية المتحدة طابعًا عن جبران.
على ذكْر الإمارات، قرأْتُ أَن حاكم الشارقة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي منَحَ متحف جبران مبلغ 75 أَلف دولار بصيغة “وديعة” على مراحل، تُتيح للمتحف، بإِدارة لجنة جبران الوطنية، تحقيقَ خمس ضرورات: مطبوعات خاصة للمتحف وإِعادة طبع بعض مؤَلفات جبران، تبديل أَماكن اللوحات بإِعادة تعليقها في سياق كرونولوجي، وضْع ملصقات على جدران المتحف حدَّ اللوحات لشرح كلِّ لوحة عنوانًا وقياساتٍ ومضمونًا، إِنشاء غرفة جانبية لقراءَة جبران في المتحف أُسوة بالمتاحف العالمية التي تخصِّص لروادها غُرَف مطالعة، صيانة اللوحات حفْظًا وبعضَ ترميم عند الحاجة القُصوى استعانةً بالمختبر الخاص الذي تـمّ إِنجازه في المتحف أَخيرًا مع الفريق البلغاري المتخصِّص تسهيلًا للأَرشفة التقْنية المستدامة.
تلك هي “الوديعة” النبيلة من حاكم الشارقة المثقَّف الذي يحب لبنان ويعرف جبران، وكان افتتح في أَيلول 2021 معرض “إِطلالة على الروح” ضَمَّ 34 عملًا لجبران، وتوقَّف مليًّا عند كلٍّ من لوحاته. وبفضل هذه “الوديعة” سيتم تطوير هيكلية المتحف وتحديثها لتواكب العصر، وفاءً لهذا الراقد تحت، في فجوة الكهف، داعيًا كلَّ مَن يقف أَمام نعشه أَن يقرأَ فوقه هذه العبارة: “أَنا حيٌّ مثلُك، وأَنا واقف الآن إِلى جانبك، فأَغمضْ عينيك والْتَفِتْ تَرَني أَمامك”.
وها إِني، منذ نصف قرن، “أَلْتَفِتُ” وأَكتبُ عنه مقالاتٍ وكتبًا وأَجدُه دومًا أَمامي حيًّا جديدًا: هنا في كتاب له مُعاد طبعه، هنا في ترجمة جديدة لأَحد كتبه، هنا في دراسة عنه جديدة، هنا في مؤْتمر حوله جديد، هنا في رسالة منه أَو إِليه، هنا في اكتشاف عنه غير معروف بعد.
من هذا الـــ”غير معروف بعد” ما اكتشفْتُه مطلع هذا الأُسبوع، ونشَرْتُه على حلقتين (الثلثاء والجمعة) في “النهار العربي”، عن البيت الذي فيه بدأَ جبران يكتب الفصول الأُولى من “النبي” (نيسان 1918)، في فترة تَمَرُّسه الكتابي بالإِنكليزية قبل لقاءاته اللاحقة بماري هاسكل وتصويبِها ما يكون كتبَه، كما كانت فعلَت عامئذٍ في أَول كتاب لجبران صدر بالإِنكليزية (“المجنون” 1918).
وكنتُ قبل أُسبوعين، في “النهار العربي” أَيضًا، نشرتُ رسالة مريانا شقيقة جبران إِلى مترجِمِهِ أَنطوني رزق الله فارس تَسمح له فيها بترجمةِ بعض نصوص جبران العربية إِلى الإنكليزية.
هذا لا لأَدَّعي أَو أَعتدَّ أَو أُعدِّدَ ما كتبْتُ أَو أَكتُب عن جبران بل لأُؤَكِّد أَنني، وكثيرين غيري، في توقُّعٍ دائمٍ لاكتشافِ جديدٍ عن سيرة أَو مسيرة هذا العبقري اللبناني العالمي الذي كانت “الحياةُ ذات الأَرحام المتجدِّدة” هي التي قصَدَها، لا امرأَة مفردة ذات رحم واحدة، حين أَنهى كتابَ “النبي” بعبارته الموحية: “برهةٌ بعد، هنيهةُ راحةٍ في قلب الريح، وتحبَل بيَ امرأَة جديدة“.
وها هي الحياة سلَّمتْه إِلى الموت يومًا، وراحت – وما زالت – تَـحبَل به كل يوم.
هـنـري زغـيـب