في حديث تابعتُه على إِذاعة France Culture مع اللبنانية الأَصل ريما عبد الملك وزيرة الثقافة الحالية في فرنسا، سأَلَها الـمُحاور غِيُّوم إِرنيه عن علاقتها بالكتاب والقراءة. أَجابت أَنها نشأَتْ في لبنان حتى العاشرة من طفولتها، وفي أَيام الحرب كان الكتابُ ملجأَها فَهَنِئَتْ إِليه، وبعدما انتقلت مع والدَيها إِلى فرنسا واصلَت علاقتها بالكتاب. ومنذ عيَّنها الرئيس ماكرون وزيرة الثقافة (أَيار الماضي)، كان الكتاب من أَول مشاريعها لتنمية القراءة. هكذا أَطلقَت قبل أَسابيع مشروع “ربع ساعة قراءَة كلَّ يوم”، وتُواصل تنْميةَ مشروعها السابق “بطاقة الثقافة”، وهي تطبيق إِلكتروني يمكن تحميلُه على الهاتف الجوَّال أَو على شاشة الكومبيوتر، وضعَت فيها وزارة الثقافة مبلغًا من المال هديةً لكل فرنسي بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة يشتري بها كتُبًا أَو بطاقات مسرح أَو سينما أَو متحف أَو أُمسية موسيقية، أَو يشترك في مواقع موسيقية أَو أَفلام وثائقية،… وكلُّ ذلك تشجيعًا شبيبةَ فرنسا على النشاط الثقافي في جميع آفاقه.
وفي ذاك الحديث أَعلنَت أَنها لحظَت في ميزانية الوزارة مبلغًا كبيرًا وافقَت عليه الحكومة، مخصَّصًا لتشجيع القراءَة عبر تسهيل الحصول على الكتب. ولا فَرق هنا بين أَن تحصل القراءة حسِّيًّا في كتاب ورقي، أَو إِلكترونيًّا على شاشة الهاتف أَو الكومبيوتر. فمعظم دور النشر بات لديها إِصداران: ورقي وإِلكتروني، ومبيعات الأَول تعادل مبيعات الأَخير، بدليل أَن فرنسا، بعد انحسار الكورونا، شهدَت هذه السنة افتتاح 112 مكتبة جديدة في مدن مختلفة. وعادت الصفوف يوميًّا تسجِّل إِقبال الفرنسيين على شراء الكتب، خصوصًا الشهر الماضي لأَنه مطلع الموسم الثقافي، وتَمَّ فيه إِعلانُ عدد من لجان الجوائز الأَدبية أَسماءَ مستحقِّيها، ما يشجِّع المواطنين على الوقوف صفوفًا طويلة لا عند محطة بنزين ولا أَمام فرن ولا أَمام بنك، بل أَمام المكتبة للحصول على نسخة من كتاب جديد.
طويلٌ حديثُ ريما عبدالملك لتلك الإِذاعة، وددتُ لو أُطلق منه بعدُ مقاطعَ أَو تعابيرَ أَو أَفكارًا، لسيدة لبنانية تولَّت وزارة الثقافة في فرنسا فشرَّفت الوزارة، وبدأَت منذ وصولها بطرح أَفكار، واستنباط أُخرى، وترسيخ الفعل الثقافي في الوجدان الفرنسي، ما يؤَكِّد على أَنَّ وزارة الثقافة في فرنسا جوهريةٌ أَساسية سيادية غيرُ ثانوية وغيرُ هامشية، ولا تعطى تسكيرةَ كوتا طائفية أَو مذهبية أَو سياسية أَو حزبية فيتولَّاها من لا شغْل له إِلَّا حضور الحفلات ورعاية الأَنشطة والتقاط الصُوَر، بل تولَّتْها سيِّدة من لبنان، من بلاد الأَرز، من بلاد الحرف، من بلاد الكتاب، لتجعل من الكتاب وقراءَة الكتاب وتسهيل اقتناء الكتاب شُغْلَها الرئيس في وزارة الثقافة.
إِن جيلًا ينشأُ على القراءة منذ طفولته الباكرة، هو جيلٌ يستحقُّ لاحقًا أَن يتولَّى الحُكْم في بلاد تسعى إِلى تعميم الفرنكوفونيا وحضارتها على بلدان العالم، وبينها لبنان الذي شهد الأُسبوع الماضي أَكبر تظاهرة فرنكوفونية خارج فرنسا.
وإِن تعويدَ أَطفال لبنان على القراءة يوميًّا، هبَةً مسائية قبل النوم، كما بلغَني من أُسرةٍ ذات وَلَدَين، هو تعويد جيل لبناني على الثقافة والكتاب والقراءَة، لعلَّنا نجد فيه بعد سنوات جيلًا يكبَر على احتقار ممارساتٍ فاسدةٍ من “بيت بو سياسة” فيُشيحُ عن الانقياد وراءَ السياسيين عميانيًّا قطعانيًّا، وينحو إِلى إِعادة لبنان وطنَ المنارة الثقافية الإِبداعية في آفاق هذا الشرق.
هـنـري زغـيـب