أَعرف أَنَّ كثيرين من جيلي، وبعضِ الأَقلِّ ردحًا، ما زالوا يفضِّلون القراءة الوَرَقية في صفحة الكتاب أَو الجريدة، مستَبْعِدين القراءَة على الشاشة، هاتفِها المحمول، أَو لوحها الذكي أَو جهاز الكومبيوتر. وأَفهم ذلك لديهم، فغالبًا ما يتوهَّم الإِنسان صعوبةً في الإِقدام إِلى ما لم يَعتَدْ عليه.
على أَن التقدُّم العلْمي لا يرحم. فهو نهر جارف لا يتوقَّف ولا ينتظر، ويجرف في تدفُّقه المتأَخرين والمتردِّدين والرافضين، تاركًا إِياهم متخلِّفين خارجَ العصر. ويومًا بعد يومٍ يتقدَّم هذا العصر نحو الفضاء الإِلكتروني فاتحًا إِياه على آفاق لا يُشبهها غيرُ انفلاتها في اتساعٍ لانهاية له. فمَن يلتحقْ يواكبْ ومَنْ لا، يبقَ مجمَّدًا في عتمة الأَمس العتيق.
للَّذين يطيرون في أُفُق العصر المتطوِّر، أَعلنَت منظمة الأونسكو قبل فترةٍ من مقرها في باريس فتْحَ الفضاء الواسع مجَّانًا للدخول الحُرّ إِلى “المكتبة الرقمية العالمية” تعاوُنًا مع مكتبة الكونغرس في واشنطن، ما اعتبره المعنيُّون “هديةً كبرى للإِنسانية”.
طبعًا هدية كبرى طالما تُتيح الدخول الإِلكتروني رقميًّا ومجَّانًا إِلى آلاف الكتُب والنُصُوص والصُوَر والأَفلام والتسجيلات الصوتية من مراحل وعقود وأَزمنة سحيقة، بلغ أَن تكون بينها كتابات ترقى إِلى 8000 سنة قبل الميلاد. ومكتبة الكونغرس، كما المعروف، أَكبر مكتبة في الدنيا، تنضم إِليها اليوم مئات المكتبات العامة في العالم وفي لغات متعددة، نهلًا منها مصادرَ المعرفة وينابيعَ الثقافة.
وما إِن صدر هذا الخبر من واشنطن وباريس حتى انفتحت توازيًا مواردُ عدَّة في بعض البلدان، أَقتصر منها هنا، لضيق المجال، على ما قدَّمت فرنسا: فها شبكة الـ”فناك” (سلسلة مكتبات للكتب والأَفلام والموسيقى وسائر المتوفِّر الثقافي) تَطرح مجانًا على الشبكة الإِلكترونية 500 كتاب يمكن تحميلُها لقراءتها، وها “أوبرا باريس الوطنية” نشرَت مجانًا على شبكة الإنترنت مجموعة المسرحيات الأَوبرالية التي جرت على مسرحها يمكن تحميلُها لمشاهدتها مرةً أَو مرارًا في أَي وقت، وها مركز السينما الفرنسي يضع في متناول الإِنترنتيين مجموع 800 صف سينما، و500 محاضرة عن تاريخ السينما وأَعلامها، وها “متروبوليتان أُوبرا نيويورك” تضع مجانًا على الشبكة الإِلكترونية مجموعة أعمال قدَّمتْها بدون جمهور خلال الحجر الكوروني، وها مركز بومبيدو يعلن عن فتح تطبيق “بودكاست” للدخول إِليه مجانًا، وأَعلنت عشرة متاحف في نيويورك وباريس ومدريد ولندن وسواها إِمكانَ الدخول مجانًا إِليها ومتابعة روائع اللوحات والتماثيل الخالدة…
لن أُكمل التعداد فهو يطول لاكتشاف ما في الفضاء الإِلكتروني من أَفلام وكتب وفيديوات وصُوَر ووثائق صوتية وبصرية عالية الأَهمية، متاحةً مجانًا لناهلي المعرفة أَينما كانت وأَينما كانوا، ما يجعل بلوغَ أَقصى الأَمكنة في العالَم ممكنًا في ثوانٍ، ملمومًا في قبضة اليد على شاشة صغيرة إِنما تَسَعُ الدنيا.
هكذا، بِنَقْرة في قبضة يدنا، نَزور العالم ونحن في مكاننا. أَما الذين ما زالوا يصرُّون على القراءة الورقية، فمُتَجَمِّدُون في الزمان، ولن يجدوا في قبضة يدهم إِلَّا حفنةَ ريح.
هـنـري زغـيـب