أَعود من الرياض وليس بي أَيُّ شَوق.
أَعود من مدينة كنت أَجُول فيها ليلًا فأُحسُّني اشتقتُ إِلى مدينة مضاءَة في الليل. وكنتُ أَتنقَّل في طرقات وسيعة معبَّدة فأُحسُّني اشتقتُ إِلى طرقات ليس فيها حُفَر في عمْق آبار. وكنتُ أَعبُر شوارع مضبوطةً بِــإِشارات ضوئية كهربائية تعمل بانتظام فأُحسُّني اشتقتُ إِلى طرقات ليست معْتمة خطرة فالتة من الرقابة ولا حاضر فيها سوى الموت المتربص عند أَي منعطف لأَنها ليست مراقَبة ولا مؤَهَّلة. وكنتُ أَجالس مواطنين سعوديين لا أَجد في لقائي إِياهم أَحاديث في السياسة والتنظير فأُحسُّني اشتقتُ إِلى جلسات لا يملأُها الجُلَّاس الاصطفافيون بكاملها أَحاديث عن السياسيين، خصومًا يهاجمونهم أَو رموزًا لهم لا تمس، وتنظيرات تافهة في الدولار ومصير البلاد والنقِّ على أَسعار البندورة والكوسى وتنكة البنزين وربطة الخبز. وكنتُ أُجالس لبنانيين فأُصغي إِلى غضبهم على الوضع السياسي في لبنان يكيلون له أَقسى شتائم الغضب على سفالة بل خيانة كلِّ سياسي في لبنان سبَّب هجرتهم أَو تهجيرهم ولو انهم في الرياض، وفي رحاب المملكة عمومًا، يعيشون في حال من الأَمن الشخصي والأَمان الاجتماعي.
بين أَفضل ما كنت أُتابعه في الرياض أَنني لم أَكُن أُتابع نشاط الـمَزارع السياسية اللبنانية وقراصنتها وقادتها وقوَّاديها، وما يقترفونه من حقارات خصوصية ونذالات عمومية بلوغًا مآربَهم ومقاعدهم وحصصهم في الدولة والحكومة العتيدة، وانشغالهم بكل نشاط شخصي مشيحين عن هموم الشعب اللبناني وهو ليس في أَدنى اهتماماتهم ولا في أَولوية اهتماماتهم.
هذا الأَعلاه، قلتُه عن أُسبوعَين لي في الرياض، كنتُ سأَقوله عن أَيّ مدينة أَو عاصمة أَو بلد قد أَكون زرتُه، لأَن في أَيّ مدينة أَو عاصمة أَو بلد في العالم حدًّا أَعلى (وأَرضى به أَدنى) من الأَمن والأَمان والبُنْية التحتية حتى يشعر المواطن والزائر والسائح أَنه في بلدٍ يحميه حكُمْ وحاكم ويضمنه قضاء.
وكيف لا أَشعر بذلك وأَنا عائدٌ إِلى قبيلة نيرونيين يتولَّون السُلطة في الدولة فيُمعنون فيها وبها ومنها وعليها فتكًا حاضرَها واغتيالًا مستقبَلَها، في سياقٍ هو أَحطُّ ما عَرف حكْم في التاريخ وأَعهَر ما عرف تاريخ في الحكْم، “يا محلى” تشلُّع ملوك الطوائف وخياناتهم حتى سقوط الأَندلس.
أَقول “عائدٌ إِلى القبيلة” ولا أَقول “عائدٌ إِلى الوطن”، لأَن القبيلة جسد مادي موَقَّت يؤْول في أَي وقت إِلى الاضمحلال، فيما الوطن روح أَثيرية خالدة أَحملها معي أَينما حللتُ لأَنها إِرثٌ ورثناه من كبارنا المباركين الذين أَسسوا لنا وطنًا: ضالعًا في التاريخ ماضيًا، فاعلًا في الوجود حاضرًا، وفاتحًا لنا الأُفق مستقبلًا بما يضيفه المبدعون على صورة الوطن وإِرثه. فالوطن أَعلى من اليوميات والآنيات والحكومات والسياسات والتقلبات والظرفيات والتشكيلات والانتخابات والرئاسات والتفاهات السياسية والحقارات المحلية والدناءَات الشخصية.
إِنه الوطن الحامل هوية الانتماء إِلى لبنان اللبناني، وهي الهوية الوحيدة القُدُسية التي لها جنَّدتُ قلمي ونذَرتُ حياتي وبذَلتُ كتاباتي ولا أَزال أَبذلُها، مشيحًا عن أُلعبانيات السلطة وأُفعوانيات الدولة وخيانات ساستهما التي تبيح تقديم لبنان الدولة إِلى هويات أُخرى تدميرية ستقضي على هويتنا إِن لم نتصَدَّ لها بهوية لبنان اللبناني بعيدًا عن التعصُّب والشوڤينية والانغلاق والتقوقع “الغيتُوِيّ”.
أَخي في اللبنانية هو المؤْمن معي وقبلي وأَكثر مني بأَن هوية لبنان اللبناني (ولا أَيّ صفة أُخرى تضاف إِليه) هي الوحيدة التي من أَجلها نعيش ونموت كي يبقى لنا لبنان الوطن مهما تَـحَاقَـرَ أَهل سلطته الموَقَّتة وتشوَّهَت مرحليًّا صورة دولته.
إِلى هذا الوطن أَنتمي، وفي معبده الوحيد أُؤْمن به وطنًا واحدًا وحيدًا مشعًّا بمبدعيه على العالم.
هـنـري زغـيـب