عدتُ من الرياض ليلة أَمس، فلم تستقْبلْني بيروت. استقْبَلَتْني مدينةٌ بائسة، شحيحةُ الأَنوار، مهجورةُ الشوارع إِلَّا من تلالِ قُمامة وزبائلِ سياسيين، وطرقاتٍ مُحَفَّرة كما لم تَعُدْ هكذا أَفقرُ مُدُن العالم.
هل هذه بيروت؟ حين غادرتُها قبل أُسبوعين، كنت متأَقْلمًا مع بؤْسها وحزنها وغضب شعبها وانكسار صباحاته، فلم أَشعُر بما كان لي طيلة أُسبوعين في مدينةٍ شوارعُها مُضاءَة ونظيفة، طرُقاتها سلسَةٌ متَّسقة، شعبُها هانئٌ ببُنية تحتية سليمة، تمامًا كما كنتُ سأُعاين لدى أَيِّ مدينةٍ في أَيِّ بلادٍ حكَّامُها يَعملون لخدمة شعبها لا مُتَلهِّين بصغار الأُمور الخاصة، وصغائر المعارك السياسية، واستصغار شؤُون شعبٍ بعضُهُ الغبيُّ أَوصَل أُولئِك الحُكَّام إِلى الحكْم فانقَلَبُوا إِلى التحَكُّم وفَرْض شروطٍ تعجيزيةٍ للحكْم عوَضَ أَن يكون أَدنى شروطهم إِنقاذَ الشعب من هذا الأَتون الأَپوكاليپتي.
عدتُ إِلى بيروت ليلة أَمس، ولو بعد بُرهة غيابٍ قصيرةٍ من أُسبوعين، فغصَصْتُ لِما تعيشُه بيروت ويُضْني أَهل بيروت ويُقيِّد شعبَ لبنان بِنيرٍ حديديٍّ مجرمٍ لا فَكاكَ منه لبيروت إِلَّا بثورةٍ لا يتسلَّل إِليها مأْجُورُون.
عدت إِلى بيروت ليلة أَمس لا بلهفة المشتاق بل بِـخَيبة الأَشواق أَن يبتلي لبنان بطبقةٍ دينوصورية لا تُصغي إِلى ما ينشره العالم من إِحصاءَاتٍ عن تَدَنِّي درَجات لبنان بين بلدان البُؤْس والجوع والفقر والاختناق الاجتماعي.
هل هذه بيروت؟ لا… ليست هذه التي أَنتمي إِليها عاصمةَ بلادي الرائعة القيم والتراث والسطوع العالمي.
فيما كنتُ ليلة أَمس أَجتاز شوارعَ هذا البيروت البائسة الفقيرة المهشَّمة، ولكي أَهرُبَ مما أَرى، رُحتُ أَتذكَّر – يومَ هي لؤْلؤَة الشرق – صرخةَ نزار قباني بصَدمة المفجوع:
آهِ يا عشَّاقَ بيروتَ القدامى: هل وجَدْتُم بعدَ بيروتَ البَديلا؟
إِنَّ بيروتَ هي الأُنثى التي تَـمنَح الخصْبَ وتُعطينا الفُصُولا
إِنْ يَـمُتْ لبنانُ …مُتُّم معه… كلُّ مَن يَقتُلُه…كان القتيلا
كُلُّ ما يطلُبُه لبنـــــــــــــــــــانُ منكُم: أَن تُـحبُّوه… تُـحبُّوه قليلا
هذه هي بيروت التي غنَّاها الشعراء، خالدةً تَسِمُ وطنَنا الخالد، ولا علاقةَ لها بِبَيروت الدولة التي أَهملَتْها حتى تشلَّعَت إِلى البُؤْس، ولا بِبَيروت السُلطة التي سبَّب إِهمالُها انفجارًا شَوَّه وجهَ بيروت ولا يزال أَهل السُلطة خارج المساءَلة، أَعادَهم إِلى السُلطة غباءُ حفنةِ مواطنين أَغناميين عميانيين ببَّغاويين.
“إِنْ يَـمُتْ لبنان …مُتُّم معه”؟ نعم يا نزار، وها شعبُ لبنان يئِنُّ على حافة الموت.
“كلُّ ما يطلُبُه لبنانُ منكُم أَن تُـحبُّوه قليلا”؟ لكنكَ يا نزار تَطلُب أَن يُـحِبَّ لبنانَ حُكَّامٌ لا يُـحِبُّون لبنان بل “مَزْرَعُوهُ” على قياسهم وتَـحَاصَصُوهُ وانقضُّوا عليه بشراسةِ مصالحِهم كما لا ينقضُّ عدوٌّ على بلد بهذا الحقْد وتلك الأَنانية المجرمة.
هنيئًا لكَ يا نزار أَنكَ عرفتَ بيروتَ الوطن ولم تعرفْ بيروت الدولة وسلطتِها. إِن في لبنان دولةً سُلْطتُها أُميَّةُ حضارةٍ لا تستاهلُ شرفَ أَن تَبني دولةَ لبنان الوطن.
هـنـري زغـيـب