من نِعَم الحياة عليَّ أَنني أَبحث دومًا عن الساعة الخامسة والعشرين كي أُنجِزَ كتاباتي، فلا وقتَ لديَّ أَصرفُه في متابعة “بيت بو سياسة” وما يخطِّطون وما ينظِّرون وما يجترحون من معجزات “عبقرية” في خدمة “المواطنين الأَعزَّاء”، خصوصًا في موسم الانتخابات كما حاليًّا، إِذ يستَحْلُون الوقفة أَمام الكاميرات ليُدْلُوا بتصاريحَ جاذبةٍ شعبيَّتَهم “الخالدة مدى الدهر”.
سوى أَنني، صباحًا، أَمُرُّ عابرًا على عناوين “النهار” السياسية، بلوغًا إِلى الأَخبار الثقافية فيها، ولَفَتَني هذا الأُسبوع خبرُ جلسة نيابية أَقرَّ فيها نوَّابُ الأُمة مشروع قانون المنافسة، وفيه إِلغاءُ الوكالات الحصرية، وبرَّروا ذلك “لإِتاحة المنافسَة ومنْع الاحتكار وحماية الاستثمار اللبناني من مافيا المحتكرين”.
يا ما شاء الله على هذا القرار الحنون، المفترض أَن الشعب منه ممنون!!
وكيف لا يكون الشعب أَكثر من ممنون، ودولته الشوساء (على وزن عوراء وعمياء وعرجاء وشَوهاء) تحافظ على مصالح الشعب وتمنع الاحتكار، من كل تاجر غدَّار، يُثْري على حساب الشعب الجرار، ويترك المواطنين ضحية مافيا الاستثمار.
عجيب، والله، كيف هذا الشعبُ العَقوق لا يحفظ “فضل” دولته عليه، ولا يُعجبه العجَب.
ولكن… لنتفحَّصْ، في تُؤَدَةٍ، هذا القرار العجَب: أَلغت الدولة الوكالات التجارية الحصرية، وأَبقَت على الوكالات السياسية الحصرية، أَي الوكالات العائلية والوراثية والإِقطاعية والمحسوباتية والحزبية والطائفية والمناطقية.
وأَكثر: أَتاحت الدولةُ المنافسةَ التجاريةَ فيما تمنع المنافسةَ الديمقراطية انتخابيًّا، فتُعرقل كلَّ من يحاول اختراق جدارها التحكُّميَّ إذا عنَّ على بال مواطنين شبَّان جُدُد أَن يترشَّحوا ليكْسروا طوق السياسيين الحاليين وينزعوا نير هؤُلاء عن رقاب الشعب المسكين.
وأَكثر بَعد: تَنزع الدولة الاحتكار التجاري وتُثَبِّت الاحتكار السياسي بلوائحَ انتخابية احتكارية معلَّبة مقْفَلة تُلْزِمُ فيها الشعب بصَوتٍ تفضيليٍّ واحدٍ أَحدٍ كي يتأَمَّن الحاصل للائحة السُلطة فيبقى أَركانها في مواقع القرار.
وأَكثر أَكثر: تَدَّعي الدولةُ حمايةَ الاستثمار اللبناني من مافيا المحتكرين فيما هيَ هيَ المافيا التي تَحتكِر لزَبانيتها المقاعدَ النيابيةَ أَبًا عن جَدّ، وتَحمي عودتهم المظَفَّرة إِلى مجلس النواب دورةً بعد دورةٍ بعد دورة، في خدمة “المواطنين الأَعزاء” و”شعب لبنان الحبيب”.
وتَعجَب الدولة، بعد كل ذلك، من انتفاضة الشعب الذي “لا يُعجِبه العجَب”.
طبعًا لن يُعجبَه العجَب وهو يرى دولتَه تتآمر عليه كي تَحتكِر وحدها مقاعد القرار.
طبعًا لن يُعجبَه العجَب وهو يرى دولتَه تَمنَع الوكالات الحصرية تجاريًّا، وتُبيح لزبانيتها الوكالات السياسية الحصرية، فلا فرصةَ إِلَّا لأَزلامها، ولا مقاعدَ إِلَّا لِمَحاسيبها، ولا قرارَ إِلَّا لزحفطونييها محليًّا وزحفطونيي الخارج استزلامًا.
لكنَّ هذا الحصرَ لن يَدوم، ولا بُدَّ أَن يَخلَعَ الشعب نيرَ الوكالات السياسية الحصرية واحتكارَ سياسييها، وينتفضَ تدريجيًّا: خطوةً بعد خطوة، دورةً بعد دورة، ويُحطِّمَ تَوَاليًا – مقعدًا بعد مقعد – هالةَ مَن يَستغلُّون الشعب بوكالةٍ منحَهم إِياها الشعب فاحتكَروها حصريًا لهم، يُجدِّدونها دورةً بعد دورة دون الرُجوع إِلى الشعب. لكنه هذه المرة سيَسحَب الوكالات منهم ويسحَب المقعد الذي احتَلُّوه مُحتكِرينَهُ بوكالةٍ حصريةٍ يَدَّعون إِلغاءَها فيما هم على صدور شعبهم جاثمون.
هـنـري زغـيـب