لم يَتَسَنَّ لي أَن أَقرأَ اسكندر رياشي (1890 – 1961) ولا الاطِّلاعُ على أَعدادٍ من جريدته “الصحافي التائه” كي أَتعرَّفَ أَكثر بشخصيته الْكانت مثيرةً جدَلًا كثيرًا حولها. كنتُ أَحيانًا أُتابع ابنَه مارك رياشي (1923 – 1973) من زاويته “صباح الخير” في “النهار”، وأَعرف أَنه مستمِدٌّ أُسلوبَه الساخر من الإِسكندر أَبيه.
حتى وصلَتْني هذا الأُسبوع من “دار الجديد” نسخةُ كتابه “نسوان من لبنان” في طبعة جديدة قدَّم لها لُقمان سْليم وهيَّأَها للطبع حواشيَ وتحقيقًا وتدقيقًا وتوثيقًا وتشكيلًا كاملًا قبل استشهاده القاهر، فانكشف لي الإِسكندرُ رياشيًّا ذا شخصية ساخرة بقلمه الحادِّ وتصويرِه الدقيقِ بيئةَ الانتداب الفرنسي، وكان منه في مركز متقدِّم.
أَقول “شخصية” وأَعنيها، لأَن الرياشيَّ كان شخصيةً لافتة بسيرته قبل أَن يكون لافتًا بمسيرته. من هنا قول أُنسي الحاج فيه: “لا يَتَمَسْخَر بل يَضع حالَه على الورق. لم يُـجَارِهِ أَحدٌ من أَهل الصحافة ولا من أَهل الأَدب. كارجٌ كَرج الحجل في لغة حيَّة نصف شفهية… عابسةٍ متوتِّرةٍ قليلة الصبر”.
وإِنه كذلك فعلًا. البارحة روى لي كبيرُنا اليوم في “النهار” الأُستاذ فرنسوا عقل أَنه، في أَواخر الخمسينات، زار الإِسكندر طالبًا منه مقالًا لعدد خاص في “البيرق” فـأَربكَه عُبوسُهُ المقْفَل على وجه مقْفَل. وفعلًا: لا يَصدر إِلَّا عن عابسٍ/ساخرٍ قولُ الإِسكندر: “وحدي تَنزل كتُبي إِلى السوق يومَ الإِثنين ولا تَبقى نسخة واحدة منها يومَ السبت”.
وحتى شريط حياته الصاخبة التحرُّك لا تخلو من عُبوس السخرية: دراستُه في “الكلية الشرقية” (زحلة) وأَسفارُه السندبادية: مصر (1907)، لبنان، حوران، لبنان زحلة ثم بعبدا وفيها أَصدر “الصحافي التائه” (1912)، پاريس، نيويورك (إِصدارُه مطبوعة “ذي نيو كَنْتْري”)، پاريس مُجَدَّدًا، لبنان (1917) وضُلوعُه في “جماعة أَرواد” المناهضةِ السلْطنةَ العثمانية، عمَلُه معاون مستشار البقاع في المفوضية الفرنسية (1920)، معاودةُ إِصداره “الصحافي التائه” (1922)، بلوغُه أَن يكون نقيب الصحافة اللبنانية (1947 – 1950)، طلبُ سعيد فريحة إِليه أَن يَكتب في “الصياد” وقدَّمه إِلى القراء بعبارة “أُستاذنا اسكندر رياشي”.
تلك الحياةُ الصاخبةُ الأَحداث والأَشخاص صاحَبَتْها، ولو بــ”قلَّة أَدب” أَحيانًا، كتاباتُه الساخرة الماجنة التي كانت، كما اختزَلَها لُقْمان سْليم، “على صهوة لغة عرجاء لم تستنقصْ من قدْر الرياشي بين زملائه، بل اختال بها في مَلاعب السياسة والصحافة، طيلةَ حياةٍ أَقلُّ ما يقال فيها إِنها حَيَواتٌ عاشها تترى”.
تلك الغرابةُ في شخصيته الساخرة حمَلَت له لقبَ “ڤولتير الشرق” (كما سمَّاه الصحافي هارولد كايلِن في جريدة “پارتيزان ريڤيو” – تأَسسَت في نيويورك سنة 1934 واحتجبَت سنة 2003)، وشهادةَ المفوَّض السامي الفرنسي الجنرال كاترو: “إِسكندر رياشي أَكثر الصحافيين فنًّا وقوَّةً في الشرق الأَوسط”، ومقولةَ أَلبِر الثاني ملِك بلجيكا عنه إِنه “نسيجٌ فريدٌ من نوعه وحُسْن كلامه”.
أَعود إِلى “نسوان من لبنان”، وليس هدَفي من هذا المقال مراجعةَ الكتاب بل اكتشافِـيَ فيه ذاكَ القلَمَ الـمُرَوَّسَ في صحافتنا، الـمُفرَدَ في أَدبنا، أَحسنَت بإِصداره “دار الجديد” واعدةً بأَربعة كتُب له أُخرى سيعرف منها الجيلُ الجديد كاتبًا متينًا جديرًا بالـمُشْرفين الجامعيين توجيهُ طلَّاب الماجستير والدكتوراه إِليه، علَمًا في تراثنا اللبناني يَسطع مع ما يُشرِق به سائر الكبار من أُدبائنا المبدعين.
هـنـري زغـيـب