في الخارج بَردٌ ومطر. في الداخل مَرويَّاتٌ من “شاب الشُيوخ” التسعيني المحامي الدُوَلي أَنطوان عقل (م. 1932) لا ينكفئُ عن حَكايا من ذاكرته المتوهِّجة بمسيرةٍ ناصعة، وكلانا – القاضي الرئيس جورج رزق وأَنا – في متعة الإِصغاء.
نَنحدر… السيارةُ تقتحم انهمالَ الثلج نُزُولًا إِلى الوادي في طريق سوداء تتأَفْعَن لَولَبيًّا على الوشاح الأَبيض.
نَنحدر بعد… تَفْتَح الشمس كوَّةً بين غَيمتَين، تطمئِنُّ إِلينا وتُغْلقُهما. الدفْءُ يُفسد نكْهة الصقيع.
نَنحدر أَكثر… من نافذة السيارة يَضيع عليَّ تمييزُ الحدود بين موجات الضباب وتموُّجات الثلج. إِنها هيبة الوادي المقدس المثلَّث الرَهبات: وادي قاديشا، وادي قنوبين، وادي قزحيا…
نَبلغ عمْق الانحدار وكدْتُ إِخاله بلا قرار. نترجَّل. ينشُب أَمامنا ديرٌ دهريٌّ جاثيًا بـبعض انحناءَة. لا ظَهْرَ له فهو طالعٌ من تجويف الصخر. هكذا شَقَعَهُ نُسَّاك البطُولة التَقَوية. على الباب يَنهَرُنا الصمتُ الحافي: “أُدخلوا بدون أَصواتكم كي لا تُزعجوا الحبيس”. نَدخل عُراةً من الهمس إِلَّا في أَفكارنا الـمُتَـثائبة. سُكونٌ رماديٌّ في الغُرَف والأَروقة والزوايا.
دير مار أَنطونيوس قزحيا ! أَنطونيوس، فهِمْنا. أَما الـ”قزحيا” فلا. الأَصل آراميّ. تعدَّدت التفاسير: قُزْحيَّا =”القَزُّ الحي” (الموت الـمُؤَدِّي إِلى الانبعاث)، أَو “الكَنْز الحي” (الحياة النُسْكية)،… والدير؟ نحن في ما أَنه ترجيحًا من أَقدم الأَديار في لبنان. يَسِمُهُ المؤَرِّخون “مملكةً قائمةً ذاتَ منهجٍ خاص بحياةٍ نُسْكية متكاملة”.
في بالي من الزيارة: رؤْية المطبعة. من زمان أَقرأُ عنها: “مطبعة قزحيا”. أَقْدم مطبعة في الشرق (1585). أَوَّلُ ما صدَر عنها سنة 1610: كتاب “المزامير” بالكرشوني (حرف سرياني يُقرأُ بالعربية). تبَنَّتْها منظَّمة الأُونسكو، مع الوادي، على “لائحة التراث العالَمي”.
نَدخل غرفة المطبعة. هدوءٌ مستطيل لا تأْلفُه المطابع. ها هي جاثمة داخلَ سورها الزجاجي. على جبينها نَسرٌ باسقُ الجناحين، على ساعدها الخلفيّ صورةُ هنري الرابع ملِك فرنسا. إِذًا هي من صُنْع فرنسي. عند ركْبتَيها لوحةٌ رخامية من نقابة أَصحاب المطابع في لبنان: “تخليدًا ذكرى أَقدم مطبعة في العالم العربي – قزحيا 1610”. أَتخيَّل سماعي دورانَها اليَدَوي. أَقرأُ فاصلةً فاصلةً تفاصيلَها العتيقة. قُبالتَها مكبسُ ورقٍ ضَجران، أَدواتٌ متقاعدة، محابرُ نسِيَتْ لون الحبر، فخارياتٌ عتيقة: جرار وأَجران، معدنياتٌ تلبَس الصدَأ.
دخلتُ غرفةً محاذية: قيلولةُ كتبٍ قديمة ذاتِ نكهةٍ تُعَتَّق ولا تَعْتَق. لفَتَني منها الكتابُ الخالد “تاريخ الأَزمنة” للبطريرك أسطفان الدويهي. تمتَدُّ صفحاته بالتقويمين المسيحي والهجْري من “نشأَة الإِسلام وظُهُور الدعوة” (الفصل الأَول) إِلى “حوادث وأَخبار الجيل السابع عشر” (الفصل 12).
يكون للزيارة حَـدّ. والحدُّ غالبًا باتِر. سوى أَنه لا – ولن – يَبتُر عظمةَ لبنان، لبنان الوادي المقدَّس والكتاب المقدَّس: “أَرزةٌ في لبنان شامخةُ القَوام، عظَّمَتْها المياه ورَفعَها القمر”. تتردَّد في بالي ترنيمةُ حُب من “نشيد الأَناشيد”: “هلُمِّي معي من لبنان، يا عروسُ من لبنان، ها هي ذي أَفخرُ الأَطياب: عيُون جنَّاتٍ، بئْرُ ماءٍ، وأَنهار من لبنان”.
نَخرُج من الدير، كأَنْ من كوكب القرون الوسطى. ومن “كتاب المزامير” (المولود هنا على هذه المطبعة قبل 412 سنة) تَتَنَاهى إِليَّ الآيةُ السابعة من المزمور 72: “يُشْرقُ في أَيامه الصِدِّيق، وكثرةُ السلام، إِلى أَن يضمحلَّ القمر”.
ها نحن من قزحيا إِلى الصعود رُجُوعًا. غير أَن هذا الوادي يرتقي عبَقًا حتى… سماء الروح.
طريقُنا إِذًا: الصعود إِلى الوادي.
هـنـري زغـيـب