كان ذلك نهار الثلاثاء 18 حزيران 1940. وانطلَق من مذياع “بي.بي.سي” (لندن) صوتٌ دعا الفرنسيين إِلى المقاومة ضدَّ أَلمانيا. لم يسمع كثيرون النداءَ الإِذاعيّ لكنّ نَشْرَه غداتَئِذٍ في “التايمز” و”الدايلي إِكسپرس” وصدورَه عن وزارة الإِعلام وتلَقُّفَ بعض الصحف الفرنسية نَشْرَه، كرَّس ذاك النداء شروق مقاومة فرنسية سطَع رمزَها صاحبُ ذاك الصوت: شارل ديغول الذي دخل تاريخ فرنسا في ما سَيَسِمُهُ لاحقًا بـ”الجمهورية الخامسة” قائدَ فرنسا إِلى نهضة العصر.
قائد ! هذا هو الشُروق الذي تنتظره الأَوطان بعد لياليها الـمُضْنية الكثيفة. قائد لا يكون زعيمًا شعبيًّا لفئة من المواطنين بل قائدَ سُلطة ترمِّمُ هيكل الدولة التي تحمي الوطن.
قائد. هو هذا ما يحتاجه لبنان اليوم: قائد نهضة لبنان اللبناني.
وهو موجود. في مكانٍ ما، في فجْرٍ ما، في فُجاءَة ما، موجود. وسيُشرق مع صباح لبنان حاملًا شمسَ الخلاص.
فيا أَيها القائد، أَيًّا تكن، أَنَّـى تكُن: تعال، آنَ أَوانُك.
تعالَ من خارج الساحة وزعمائها وخُطَبِهم ولُغَاتهم وشعبَويَّاتهم وأَضاليلهم وأَحزابهم وتيَّاراتهم وحساباتهم ونواياهم وصفقاتهم وپوانتاجاتهم الانتخابية ومخدِّراتهم السياسية والطائفية والمناطقية والديماغوجية وجميعُها هدَّامة بلا رحمة، لا تخدُم إِلَّا زعاماتهم الزائفة الزائلة معهم وربما قبلهم.
لأَجل الشعب والدولة والوطن، تعال.
تعالَ واشْهَد وشَاهِد كيف سيعود الوطن معكَ إِلى لبنان، فالمهاجرون يعودون بإِيمان، واليائسون يُشْفَون بالرجاء، والكافرون بالدولة يسترجعون ثقتَهُم بها، والحياديون يستنهضون الْتزامَهم اللبناني، والفقراء ينتظرون رغيفًا سيَنالُونه.
تعالَ كي تعود إِلى الشعب حياةٌ فَقَدَها شعبُنا بسبب رؤَساء ونوَّاب ووزراء وسياسيين “فروماجيين” (ناهشي الجُبنة).
تعالَ لا إِلى مناصرين، ولا إِلى أَنصار، ولا إِلى محازبين، ولا إِلى حزبيين، ولا إِلى مُعَيِّشين تَهييصيين مُداهنين محسوبين، بل إِلى الشعب كلِّ الشعب، وإِلى بناء الدولة برجالِ دولةٍ أَكْفياء لا برجال سياسة مُتَثَعلِبين مِركنْتيليين انتهازيين أُلْعُبانيين كذَّابين.
تعالَ إِلى ترميم دولة بمن يكونون هُم في خدمتها وخدمة شعبنا، لا مَن يجعلون الدولة وشعبنا في خدمتهم.
تعالَ ومعكَ الثقة بشخصك النقيّ وشخصيتكَ القوية وقامتكَ المهيبة وهامتكَ الشامخة بشِلْح أَرزة على جبينك.
تعالَ وقُلْ للبنان: “إِنهَضْ” فينهض معكَ لبنان واللبنانيون جميعًا على كامل التراب اللبناني وفي جميع الـمَهَاجر، ويؤْمنون بأَنكَ قائد الدولة الديمقراطية الفعلية غير “الدكتاتورية” وغير “الشخصانية” وغير “التوافقية”، دولة مؤَسسات لا تحمل اسمك بل اسم لبنان، ولا تكون سُلطةً خاضعة لكَ بل خادمةً كلَّ فردٍ من شعب لبنان، دولة لا تدَّعي الإِصلاح بل تنفِّذه بدون ادِّعاء فولكلوري، دولة المسارات المنظَّمة دستوريًّا وقانونيًّا لا استنسابيًّا ولا استزلاميًّا، دولة مواهب وحواسيب لا دولة مذاهب ومحاسيب، دولة كفِيَّة كلُّ فردٍ فيها كفيٌّ بِذاته لا بِـمَن وظَّفَه أَو تَوَسَّط له، دولة تتوزَّع فيها فُرصُ العمل سواسيةً وفْق الكفاءة والاستحقاق العلْمي والأَكاديمي، دولة فصْل السلطات وكلُّ سلطةٍ فيها دولةُ حق وإِحقاق وحقوق واستحقاق.
إِلى هذا اللبنان تعالَ، أَيها القائد. أُناديكَ وأَعرف أَنك موجود، لأَن في شعبنا طاقاتٍ رائعةً أَنتَ منها، تنتظرُكَ حتى تخاصرَكَ في السلطة، وتكاتفَكَ في الدولة، وتؤَازرَك في خدمة الوطن.
إِني أَرى فجرًا يقترب، وثعالبَ تُهرول إِلى أَوكارها. ليس طوباويًّا ندَائِيكَ، ولا نظَريًّا ولا احتمالًا، فأَنتَ موجود وواجبُ الوجود، لأَنَّ لبنان موجود وواجبُ الوجود، ولن ينْقذَه من براثن يوضاسييه إِلَّا قائدٌ قويٌّ يعلِّق الحبال على التينات اليابسة ويصرُخ بالشعب: “أُخرُج”، فيتدَحرَج الحجر ويَخرج شعبُنا أَخيرًا إِلى نور لبنان اللبناني.
هـنـري زغـيـب