أُتابع غالبًا من التلڤزيون الفرنسي البرنامج الوثائقيّ الأُسبوعي “أَسرار التاريخ” (Secrets d’Histoire)، وفي كل حلقة منه موسوعة موجَزة في 90 دقيقة عن شخصية فرنسية وأَحيانًا غير فرنسية، وعن حدَث من تاريخ فرنسا وأَحيانًا من غير فرنسا، مع وثائق بصرية موثَّقة، أَحيانًا تنكشف للمرة الأُولى، فإِذا الحلقة متعة ثقافية غنية تغري بمتابعة الحلقات أُسبوعيًّا.
مع براعة مقدِّم البرنامج ستيفان بِرْن (وهو يشارك في الإِعداد) وجمال الإِخراج التوثيقي، تُدهش في كل حلقة كثافةُ معلومات بات يتابعها في إِحصاء أَخير، نحو خمسة ملايين مشاهد في العالم، بدأَ عددُهم يتصاعد أُسبوعًا بعد أُسبوع منذ بثِّ الحلقة الأُولى مساءَ الأَحد 30 أَيلول 2007. وفي التصوير حاليًّا حلقةُ كانون الثاني 2022 عن المسرحيّ الخالد موليير في الذكرى400 لولادته (1622)، وكتابةُ سيناريو حلقة عن الرسام الخالد رُنْوار لعرضها في شباط 2022.
تتميَّز هذه الحلقات بعرضها الوثائقَ نُصوصًا وأَماكنَ وشهادات خبراء مختصين، ما يُغْنيها بمادة معرفية يستمتع بها الـمُشاهد ثقافةً وجمالَ سِياق يتعدى تفاصيل زمانها: مَن فعل ماذا عصرئذٍ، ومَن والَى ومَن ناهض، كما عنعنات السياسة في كل عصر.
وإِلى الحلقات التلڤزيونية البديعة، ظهرت بالاسم ذاته مجلةٌ فصلية من 116 صفحة تُكمل قراءةً روائعَ ما في الكنوز المعرفية البصرية تلفزيونيًّا. صدر قبل أَيام عددها الجديد (رقم 32) وفيه ملَفٌ من 38 صفحة عن “لويس الخامس عشر الملك المغبون” ومواضيع لا يمكن قارئها إِلَّا أَن يعود إِليها غير مرة نهِمًا في استزادة.
أَوردْتُ هذا الأَعلاه لا لأُقارن مع ما عندنا وهو في هذا المجال أَتعسُ من أَن يستاهل المقارنة. إِنما أَوردتُهُ للتساؤُل عما ينقص الإِعلاميين عندنا اشتراكًا مع المختصين والأَكاديميين كي يبحثوا في كُنُوز تراثنا، مادِّيِّه وغيرِ المادِّي، وينتجوا حلقات من تاريخنا الأَثري والجغرافي والصحافي والأَدبي والسياحي والطبيعي والفني، في سياق توثيقي علْمي غير خاضع لــ”مقتضيات” السياسة وفئويات السياسيين المذهبية والطائفية والمناطقية، فتكون هذه الحلقات مرآةً ليومنا ومنارةً لغَدِ أَولادنا يتعرفون منها إِلى حقبات من تاريخ لبنان، دون الدخول في زواريب تُعيق اليوم وضع كتاب مدرسيّ للتاريخ جامعٍ حيادي لتلامذتنا المحرومين منه لأَن المؤَلفين خاضعون لبيئتهم السياسية.
أُتابع أَحيانًا حلقات محلية وثائقية، بعضها عن أَعلام سياسيين والآخر عن أَماكن، لكنها محصورة في حيِّز ضيِّق إِما من محطة ضئيلة المشاهدين أَو من محطة مدفوعة المشاهَدَة، ما يقلِّل من نسبة المتابعة. المطلوب تعميم هذه الحلقات فتعوِّض عن برامج ومسلسات محلية (أَو مستوردَة) مسطحة تتشابه فيها قصص وشخصيات وتتداخل فيها الأَسماء والمواضيع ولا تخدم تراثنا وتاريخنا.
الوضع اليوم صعب؟ صحيح. لكن هذا لا يمنع من تحضير برنامج تتولَّى تسويقه محطة تجارية بذكاءٍ يقطف لها إِعلانات مشروعة هي حقُّها الطبيعي. أَما أَن يستمر تعامي المحطات عن هذا النوع من الإِنتاج لأَنه لا يخدمها إِعلانيًّا كمسلسلاتها وبرامجها التسلوية أَو الدرامية، أَو السياسية مثيرة غرائز الناس، فهذا يزيد من تسطيح المشاهدين ومن تخلُّف البرامج ومن الابتعاد عن جوهر تاريخنا الحضاري طمعًا بالقرش القريب من مسلسلات أَو حلقات خفيفة كزبَد البحر تزول فور نهاية الحلقات.
ويخطئُ المعنيون التلڤزيونيون في ظنهم أَن الجمهور اللبناني خصوصًا والعربي عمومًا هو فقط جمهور مسلسلات خفيفة وبرامج تسلية وغرائز سياسية. الجمهور المثقَّف، وهو أَكثريّ، يتقبَّل كل جيِّدٍ جِدِّي حين يكون على مستوى جادّ من التحضير والتقديم.
هـنـري زغـيـب