في جوهر الساغا اللبنانية
“أَزرار” – الحلقة 1202 “النهار” – السبت 6 تشرين الثاني 2021

في محاضرة جامعية قال الپروفسور فيليب سالم: “هُويَّتي لبنانية، وجواز سَفَري أَميركي أَحملُه للتنقُّل، وأَنا كطبيبٍ كثيرُ الأَسفار. غير أَن الجواز لا يُحدِّد هُويتي كلُبنانيّ، فانتمائي الدائم إِلى وطني لبنان، والتزامي الدائمُ الدفاعُ عن القضية اللبنانية”.

 عبارة فيليب سالم – وهو اللبنانيُّ الساطعُ في العالَم عالِمًا جَلودًا وباحثًا مجلِّيًا في استعصاء السرطان – معادلةٌ ثابتةٌ لكلّ لبناني يحمل جذوره أَينما يحلّ، يبادلُ الوفاءَ البلادَ التي تستقبله ضيفًا فمُواطنًا، لكنه يُبقي على الولاء لوطنِ مولدِه ولأَرضِه الأُم. إِنه الانتماءُ الأَصِيل إِلى النبْع الأَصْل. الثمرة حين تغادر غُصنها لا تحمل معها جذعها الطالع من الأَرض لكنها تحمل فيها خصائص جُذُورها في باطن التراب، وفي الباطن كلُّ الخلاصة الجينيولوجية. هكذا الـمُهاجر الأَصيل: يغادر أَرضَه الأُم (الجِذْع) ولا يغَادرُهُ النسَبُ (الجذْرُ) الذي ينتمي إِليه.

هذه علامةُ الساغا اللبنانية منذ فجر الهِجرة: ملاحمُ من مغامراتٍ شاقَّة وإِنجازاتٍ شهمة سجَّلَها مهاجرون لبنانيون، حفِظَتْها دُوَلُ استقبالهم وانحفَرَت في ذاكرة وطنهم الغنية بالمآثر الـمُشرِّفة. بذا تُلغِي “الأُوديسَّةُ” اللبنانية كلَّ كلامٍ على “الدياسپورا” ذات “الشَتات  والتشرُّد والضياع بلا أَرض ولا وطن”.

أَعود إِلى منتصف القرن التاسع عشر: منه انطلقَت هِجرةُ اللبنانيين، معظمُهم إِلى أَميركا (شماليِّها والجنوبيّ) وإِلى مصر، هرَبًا من جور العثمانيين وتَسلُّط سُلطتهم، إِذًا من دولة الباب العالي وفروعها، لكنهم لم يُنكروا جُذُورَهم في وطنَهم (جبران وحسَن كامل الصبَّاح في نيويورك، الشقيقان تقلا في القاهرة). ومثلُها الهِجرة الحديثة منذ 1975، وما زالت تنزف، هَرَبًا من فشَل الدولة وسُقُوط فروعها في الفساد والتَسَلُّط والطائفية والمحسوبية. لكن لبنان الوطن باقٍ في قلوب مَن يُهاجرون حاملين في وجدانهم لبنانَ انتماءً باطنًا أَو واعيًا.

الولاء والوفاء، الجذور والانتماء. هنا جوهرُ المعادلة: تَدول الدُوَل وحكوماتُها إِلى عتمة النسيان، وتَخْلُدُ الأَوطان ومناراتُها إِلى ذاكرة الزمان. فلْنُمَيِّزْ بين فساد دولةٍ يُهَجِّر أَبناءَها، وقُدسية وطن يَحُرُز أَبناءَه أَينما هاجروا. الدولة يُنادَى عليها عن بُعدٍ بغضَبٍ صارخ، الوطنُ حوارٌ عن قُرْبٍ صامتٌ مع الذات. كلُّ فردٍ يهاجرٍ يحمل في وجدانه شعبًا من التراث.

لم يعُد سؤَالًا لماذا يهاجر أَبناءُ لبنان. إِنهم هَجَروا – بل تَهَجَّروا – من حُكْمٍ تُديره سلطة فاجرة قائمة لا على رضى الشعب بل على أَكتاف محاسيب وأَزلام يعيشون في زبائنية و”معلَيْشية” واستزلامية و”براعات” استسلامية للواقع السياسي يعتمدونها “شطارات” من طراز “الكذب ملْح الرجال”، “الشاطر ما يموت”، “كل مين تجوَّز إِمي صار عمّي”، “بسيطة، شو وقَّفِت عليي؟”، وتنسحب هذه “الشطارات” السامَّة على ممارسات سياسيين يقودون الشعب مستغلِّين استسلامه، فيما هُم فاشلون في حُكْم البلاد، ساقطون أَمام العدالة – ولو كابروا بإِنكار سافل -، مُتَمَترسون في غيِّهم، عاهرون في صفَقَاتهم وصفاقاتهم، مارقون في نظر حُكَّام العالم.

لهذا يغادر أَبناءُ لبنان الرافضونَ الذُلَّ أَمام جلَّاديهم في الدولة. يحملون في قلوبهم وطنهم، ويُهاجرون إِلى أَيِّ بلادٍ فيها دولةٌ حازمة حاسمة ولو لم يعتنقوها وطنًا بديلًا. فيها يعملون، وفيها يؤَمِّنون مستقبلًا لأَولادهم، وفيها ينجحون فيُشكِّلون هناك الحضورَ اللبناني الساطع في العالم. ويزيد الدكتور فيليب سالم “… الحضور الفاعل”، ومعه حق  ، فكل لبنانيٍّ ناجحٍ في العالم فاعلٌ في مجتمع إِقامته وساطعٌ باسم وطنه لبنان.

المهاجرون اللبنانيون رئةُ لبنان الأُخرى؟ صحيح. وأَقصى أُمنيات أَبنائها، هذه الرئة الأُخرى، أَن تَنقى رئةُ لبنان الأُولى فَتَتَخَلَّصَ من سُموم دولته سُلطةً وحكَّامًا، لتعودَ الرئتان نَقِيَّتين، ويعودوا بفرَحٍ وقناعةٍ إِلى صدر الوطن.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib