بعد سنواتٍ مُضْنية من التدقيق تسمياتٍ ووقائعَ وأَماكنَ في قلب الجبل اللبناني، أَصدر الپروفسور روجر آلِن أَخيرًا ترجمتَه الإِنكليزيةَ كتابَ أَمين الريحاني الخالد “قلب لبنان” (530 صفحة قطعًا كبيرًا – منشورات جامعة سيراكيوز-نيويورك. تحرير عدنان حيدر ومايكل بيرد).
“مُضْنية التدقيق”؟ صحيح، لأَن روجر آلِن (طويلًا أُستاذ الأَدب العربي في جامعة پنسيلڤانيا، تَقاعَد قبل بضع سنوات) بين أَبرز الأَكاديميين الأَميركيين المعاصرين ترجمةً الأَدبَ العربي الحديث إِلى الإِنكليزية (ترجم مؤَلفات لنجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وجبرا ابرهيم جبرا وكثيرين سواهُم) ولم تكُن سهلةً ترجمتُه كلماتٍ لبنانيةً محليةً جبليةً وأَسماءَ أَماكن وأَحياء قروية وأَزهار وأَشجار وتعابيرَ محكية ليست في قاموس المكتوب.
مع ذلك نجح في تأْدية أَمين الريحاني بأَمانةٍ علْمية أَكاديمية ناقلًا “سياحات قصيرة في جبالنا وتاريخنا”، العنوان الجانبي كما وضعَه الأَمين، منذ الانطلاق من الفريكة فنهر الكلب، رفقة المكاري محبوب وبغْلته “محبوبة”، تصعيدًا وتوغُّلًا في جنبات لبنان بين الأَرز ووادي الجماجم وصوفر وبلاد جبيل وجاج ونهر ابرهيم والعاقورة ويحشوش وبسكنتا وفاريا وطرابلس والشويفات،… وعناوين أُخرى لم يتسنَّ للريحاني تفصيلُها لأَن حادثة وقوعه عن الدراجة أَقعدَتْه عن الكتابة حتى وفاته التي، في 13 أَيلول 1940، قصفَتْ حياته وهو في نضارة عطائه.
أَهمية هذا الكتاب، منقولًا إِلى الإِنكليزية، أَنه يوسِّع مساحة الضوء المعرفي عن لبنان بقلم أَديب عالمي لم “تُؤَمْرِكْهُ” نيويورك بالرغم من نجاحاته فيها (هو أَول عربي وضع رواية بالإِنكليزية: “كتاب خالد” -1911 مع غلاف ورسوم بريشة صديقه جبران). وهو كتب عن قلب لبنان بلُغَة قلبه الذي، أَنَّى جالَ أَميركيًّا وعربيًّا، ظَلَّ ينبض على إِيقاع “النجوى” يصلِّيها عند شرفة الفريكة المطلَّة على صنين.
وكما كان الريحاني نسَّق كتابه (صدر لاحقًا سنة 1947 بعناية شقيقه الناشر أَلبرت،) وكتبَ فصوله بقلمٍ غمَسه في حُبّ لبنان، هكذا روجر آلِن ترجمَه بما في وجدانه من حبِّ لبنان منذ زاره (مشاركًا في المؤْتمر الدولي الثالث للدراسات الجبرانية – الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU -كانون الثاني 2018) وزار متحف الريحاني في الفريكة، و”ذاق” مناخ البيت الذي منه انطلق الريحاني إِلى رحلاته، وفيه مي الريحاني (ابنةُ أَلبرت شقيق الأَمين) اقترحَت عليه قراءةَ “قلب لبنان” وترجمتَه إِلى الإِنكليزية. إِخالُها تلك كانت شرارةَ الحب التي جعلَتْه يندفع إِلى ترجمة الكتاب. تلك الزيارة عادت مي الريحاني، في مقدمتها للطبعة الإِنكليزية، ذَكَرتْها: “يومها وقفْتُ مع روجر على شرفة بيتنا في الفريكة قبالة هَيبة صنين وجماله متماوجًا بين أَشعة زرقاء وبيضاء من شمس المغيب. بعد صمت بليغ قال لي روجر: لا بدَّ أَنْ كان الريحاني هيمانَ دائمًا بهذا المشهد الأَثيري. وأَظنُّ روجر، من لحظتها، أَضمَرَ أَن يترجم الكتاب”.
اليوم، مع صدور “قلب لبنان” في لغة الأَمريكيين وملايين مُتْقنيها، يكون لبنانُ البهيّ النقيّ الغنيّ الثروة الطبيعية والتراثية، انفتح على أُفق هو الأَوسع في الكوكب، ليقرَأَ العالَـمُ جُذورَ لبناننا الحقيقي، الطاهر الـمَنبت والطوية، الأَصيل الأُصول والإِرث، بترجمة روجر آلِن المستشرق الخبير، وبقلم الريحاني الكبير الذي أَشرَقَ لبنانُ في رثائه رفيقَه وصديقَه جبران: “جبران، يا أَخي ورفيقي وحبيبي، إِنَّ للشهرة يومًا، وإِنَّ للحُزن يومًا، والباقي للبنان (…) وإِنَّ ترابي غدًا في وادي الفريكة يناجي ترابَكَ في الوادي المقدَّس” (جريدة “الهدى”، نيويورك، السنة 34، العدد 174، الخميس 17 أَيلول 1934، ص4 و5 – نقلًا عن جريدة “زحلة الفتاة”).
هذا هو لبنان كما اعتنقَه الريحاني وجبران. وما أَهنأَ لبنان اللبناني بهذَين الخالدَين.
هـنـري زغـيـب