في ربيع 1954 كان كميل شمعون أَول رئيس لبناني يزور البرازيل، الوطنَ الذي يضم أَكثر الوافدين إِليه منذ مطالع الهجرة اللبنانية في الربع الأَخير من القرن التاسع عشر.
نجمَتْ عن تلك الزيارة اتفاقات ثنائية أَعقبَها افتتاحُ السفارتين رسميًا في بيروت وبرازيليا. سوى أَن اللافتَ فيها استقبالٌ غيرُ عاديٍّ شاءَه الرئيس البرازيلي غيتوليو ڤارغاس تكريمًا ضيفَه الكبيرَ رئيسَ لبنان.
في تعليقٍ على تلك الزيارة نقله إِليَّ الزميل رؤُوف قبيسي سمعَه شخصيًّا من أَعضاء في “العصبة الأَندلسية” (اجتمع بهم إِبان زيارته البرازيل سنة 1969) أَنهم تذكَّروا تصريح الرئيس البرازيلي مُرَحِّبًا استثنائيًا برئيس لبنان لأَنه “رئيس البلاد التي جاء منها لبنانيون ساهموا في بناء البرازيل مجتمَعًا واقتصادًا، استوطنوا البلاد، ظلَّوا فيها وخَدَموها، اندمجوا بأَهلها وكانوا أَوفياء لها وظلُّوا على وفائهم لجذورهم في أَرضهم الأُم”. وقارن المحدِّثون ذلك باستقبال ڤارغاس رئيسَ وزراء بريطانيا في احتفالٍ عاديٍّ “لأَن البريطانيين كانوا يأْتون إِلى البرازيل، يقطفون من خيراتها ويعودون إِلى بريطانياهُم فلا يخدمون المجتمع البرازيلي ولا يندمجون فيه”.
هكذا امتدحَ الرئيس البرازيلي حُضورًا لبنانيًّا راح يتنامى تباعًا بالدينامية اللبنانية لدى المتحدِّرين: سياسيًّا (پاولو معلوف حاكم ساو پاولو، ميشال تامر رئيس جمهورية)، صحافيًّا (ديڤيد ناصر أَبرز كُتَّاب الجريدة الكبرى “إِستادو دي ساو پاولو”)، واجتماعيًّا (النوادي اللبنانية/البرازيلية في كل البلاد).
هذا هو الحضور اللبناني الذي يتطلَّع اليوم من بعيدٍ إِلى أَرضه الأُم، ويأْسف ويقلَق، هو المكتنز طاقاتٍ خلاقةً لم تعرف دولة لبنان أَن تَغنَم منها رؤْيةً وخبرةً واستشرافًا ونجاحًا وسْع العالم فلا تُـحِلُّ في المراكز والمسؤُوليات إِلَّا الأَزلام والمحاسيب وفيهم أَفشل مَن يعمل على إِنقاذ لبنان من كارثته التاريخية.
الحضور اللبناني في العالم! ويتناهى إِليَّ من جديدٍ صوتُ جبران: “أَبناءُ لبناني هُم الذين يغادرون لبنان وليس لهم سوى حماسةٍ في قلوبهم، ويعودون إِليه وأَكاليلُ الغار على رؤُوسهم. هُم الذين يتغلَّبون على محيطهم أَينما حَلُّوا، ويجتذبون القلوب إِليهم أَينما وُجِدُوا. هُم الذين يولَدون في الأَكواخ ويموتون في قصُور العلْم. هؤُلاء هُم أَبناء لبنان، السُرُجُ التي لا تُطفئُها الرياح، والملحُ الذي لا تُفْسده الدهور” (“لكُم لبنانُكم ولي لبناني” – “الهلال” – السنة 29 – العدد الأَول – كانون الثاني 1920). ويعود لي صوتُه مخاطبًا أُولئِك الـ”أَينما حَلُّوا”: “أُؤْمن بإِمكان واحدِكم مخاطَبَةَ مؤَسسي هذه الأُمة ]أَميركا[: “ها أَنذا شجرة ناشئة فتية، جذورُها مزروعة في تلال لبنان، وها هي جاءت تنزرع هنا وسَوف تُثْمر”… بلى: أُؤْمن بأَن يقف واحدُكم أَمام أَبراج نيويورك وواشنطن وشيكاغو وسان فرنسسكو مخاطبًا إِياها في صمته: “أَنا سليلُ شعب بنى دمشق وبيبلوس وصيدا وصور وأَنطاكية، وها أَنا هنا عازمٌ على أَن أَبني معَكم” (“إِلى الأَميركيين الشباب من أَصل سوري” – مجلة “العالم السوري” – السنة الأُولى – العدد الأَول – تموز 1926).
هذا هو حضورُ اللبنانيين في العالم: ولاءٌ للأَرض الجديدة التي استضافتْهم، ووفاءٌ للأَرض الأُم التي أَنْبَتَتْهُم.
هؤُلاء هُم الذين لا يتذكَّرهم أَهلُ السلطة في لبنان إِلَّا متى سطَع أَحدُهم في العالم فيتذكَّرونه ويَهرعون إِلى “التغنِّي الفولكلوريّ” بأَنه “من أَصل لبناني”، ويهنِّئُونه ويعتَزُّون به مُنكرين أَنَّ حُكْمَهم هو الذي هَجَّر أُولئِك الْــ”من أَصل لبناني” وما زال مُوغِلًا في تهجيرهم.
هؤُلاء هُم الذي يَصنعون مجدَ لبنان في العالم، واستوجَبُوا أَن أَقامَ رئيس البرازيل، قبل 67 سنة، استقبالًا استثنائيًّا للرئيس الاستثنائي كميل شمعون.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib