يا صباحَ نورها!
والــ“ها”، هنا، ليست للشمس ذاتِ النُور الوهَّاج بل للشمعة ذاتِ النُور الرجراج. فأَنا، ليلةَ أَمس، كتبتُ هذا النصَّ على نُور الشمعة، إِذ انقطع تيَّار الكهرباء ولم يأْتِ، وغابَ تيَّار المولِّد ولم يعُد.
ولأَنني منذ فترةٍ طويلةٍ فقَدْتُ عادةَ الكتابة اليدَوية وأَدمنتُ الكتابة الإِلكترونية على مكابس الكومپيوتر، اضطُررتُ ليلةَ أَمس إِلى كتابة هذا النص على مهل، على ورقة صامتة، على نور شمعة خافتة، وَحَولي ظلامٌ أَلْيَلُ ذكَّرني بهم.
ذكَّرَني بِـمن؟
تذكَّرتُ مارون عبود متكَوِّمًا خلْف مكتبه العتيق في عين كفاع، يكتب على ضوء “قنديل لوكْس” أَو “قنديل نمرو 3” نازفِ الفتيل من حماوة الزيت.
تذكَّرتُ الشيخ عبدالله العلايلي في شقَّته البيروتية المتواضعة على أَنَفَة العِلْم، يُنقِّب على نور الشموع عن كلمةٍ يَنْحتُها أَو يُضيفُها إِلى قاموسٍ رتَّب بتُؤَدَةٍ بطاقاته في العُلَب استعدادًا للذهاب إِلى المطبعة، وإِذا رُعاعُ الحرب الهمجيُّون اجتاحوا بيته وبعثروا البطاقات في الشارع بعدما فتحوها بحثًا عن نُقودٍ فوجدوا فيها ثروة كلمات.
تذكَّرتُ الياس أَبو شبكة الذي رفَض إِدخال الكهرباء إِلى حارته الكبيرة في الزوق، مُكْتفيًا بالشُموع والقنديل كاتبًا قصائدَه ونثَائرَه في ليلِ الزوق مترجمًا تلك الجلسات بقصيدته: “أَرجِعْ إِلينا الصَاجْ، والجُرنَ والمهباجْ، وخِصبنا في الرُبى ونُورَنا في السِراج… واسترجِعِ الكهربا وكاذباتِ الغنى… يا دهرُ أَرجِع لنا ما كانْ في لبنانْ”.
تذكَّرتُ جبران أَمام قنديل الغاز أَو الشَمْعَدان السُباعي، حاضنًا ريشتَه أَمام لوحة، أَو يَراعتَه أَمام صفحاتٍ يَدفقُ إِليها نصوصه، عربيةً أَو إِنكليزية، ليُطْلع منها نورًا يشعُّ عالميًا على الناس من صومعته النيويوركية المتقشِّفة.
تذكَّرتُهم، لا تَشَبُّهًا نرجسيًّا، بل تذكُّرًا نوستالجيًّا بعضَ ما كانوا عليه من وسائلَ ووسائطَ بِدائيةٍ في تينِك الحقْبَتَين العشرينية والثلاثينية من القرن العشرين، مقارنةً بما كنَّا عليه وما صِرنا إِليه في هذه الحقْبة العشرينية من القرن الحادي والعشرين.
أَيامَها كانوا قانعين طَوعًا ببُطْء العصر إِيقاعًا وبدائيةَ وسائِلِهِ تدبيرًا، راضين بما لهم وما يَبْلُغون غيرَ طامحين، ولا في الحلْم وربما لا في التخيُّل، إِلى ما نحن إِليه اليوم من سُرعة العصر إِيقاعًا، وتكنولوجيَّةِ وسائِلِهِ إِلكْترونيًّا.
وإِذ “الحياةُ لا تُقيم في بيوت الأَمس” (كما كتبَ جبران في فصل “الأَولاد” من “النبي”)، ليس إِنسانيًّا ولا منطقيًّا ولا مُواطنيًّا أَنْ ننحدرَ مئةَ سنةٍ إِلى الوراء فأَكتبَ هذا النصَّ ليلةَ أَمس، قَسْرًا لا طوعًا، على نور شمعة، ولم يعُد هذا في المأْلوف حتى في أَتعس بلدان العالم بِدائيَّةً وتخلُّفًا وحُكْمًا فاشلًا فاسدًا فاسقًا مارقًا.
هذا اللُبنان الذي وَسَمَهُ الغربيون “دُرَّة الشرق”، ها الغربيون يتابعونه اليومَ من بعيدٍ “يتيمَ الشرق”، تتجاذبه الدوَلُ شرقيُّها والغربي، تتنازع فيه القرار لأَن دولتَه بلا قرار، تَصُوغ قدَرَه لأَن سُلْطته بلا كرامة، ويَهجُر شعبُه لأَن الحياة فيه انهصرت إِلى تمضية الليالي على نُور شمعة.
من مكابس الكمپيوتر الخرساء ليلة أَمس، إِلى ورقة ناطقةٍ أَحملُها الآن في يدي لأَقرأَها عليكم بِخَطِّيَ غيرِ المستقيم لأَني هجَرتُ الكتابة اليدَوية، يتبيَّن الفرقُ الجارح بين وطنٍ تُراثُهُ جوهرةُ هذا الشرق، فيما دولتُه بإِدارة سُلطةٍ باتت مسخَرة الشرق والغرب، لا يصاغُ لها كلامٌ حتى ولا لقَذْفِها بشَماتة اللعنة.
هـنـري زغـيـب