حين الوطنُ إِبداع ودَولتُه انتفاع
“أَزرار” – الحلقة 1194 – “النهار” – السبت 11 أَيلول 2021

“بين نجاح الحياة العامة وتطوُّر الفنون تَواصُلٌ يصعُب تفسيرُهُ منطقيًّا إِنما يسهُل تبريرُهُ شعوريًّا: عصرُ پيريكليس كان أَيضًا عصرَ فيدياس، وعصرُ لورنزو دوميديتْشي كان أَيضًا عصرَ ليوناردو داڤنتشي، وعصرُ إِليزابيت الأُولى كان أَيضًا عصرَ شكسپير. والمدى الجديد الذي أَبني عليه حملتي الرئاسية لنجاح الحياة العامة، يُمكن أَيضًا أَن يكون مدًى جديدًا للفنون الأَميركية”.

هذا الكلام من ذهَب وَرَدَ في رسالة إِلى السيدة تِــيُـودات جونسون (1907-2002) ناشرة مجلة “ميوزيكا أَميركا” (أَقدم مجلة أَميركية للموسيقى الكلاسيكية – تأَسسَت سنة 1898 وما زالت تصدُر حتى اليوم). تاريخ الرسالة: الثلثاء 13 أَيلول 1960. التوقيع: المرشَّح الرئاسي جون كينِدي (انتُخب رئيسًا بعد 7 أَسابيع: نهار الثلثاء 9 تشرين الثاني 1960).

وَوَفَى بتعهُّدِه الرئيسُ المنتَخَب، بدءًا من اختياره كبيرَ شعراء أَميركا روبرت فْروسْت (1874-1963) ليكون خطيبَ احتفال تسلُّمِه الحكْمَ وقسَمِه اليمينَ الدستورية صباح ذاك الجمعة المثلِج العاصف 20 كانون الثاني 1961. أَلقى فْروسْت يومها قصيدة “الهدية التامَّة” عن مجد أَميركا الفنون والآداب، دون أَيِّ كلمةٍ في مديح الرئيس الواقف أَمامه (كما يفعل عادةً شعراءُ العرب المدَّاحون المتزلِّفون أَمام حكَّامهم).

وأَكمل كيندي تعهُّده حيال الثقافة في عهده. وفي مقال أَحتفِظُ به كنتُ قرأْتُهُ في “الواشنطن پوست” (19 حزيران 2017) استرجَع كاتبُه الناقدُ الفني فيليب كينيكوت عبارتَين من أَحد خُطَب الرئيس في مطلع عهده. الأُولى: “أَتطلع إِلى أَميركا تهتمُّ بالإِنجازات الإِبداعية في الفنون والآداب قَدْرَمَا تهتمُّ بالإِنجازات في قطاع الأَعمال وفي إِدارة شؤُون الدولة”، والأُخرى: “لا يمكن بلادنا أَن تكون غنيَّةً ماديًّا وفقيرةً فكريًّا”. وبلغَتْ أَهميةُ هاتين العبارتين أَنهما اليوم منحوتتان على الجدار الخارجي عند مدخل “كيندي سنتر للفنون المشهدية”، هذا المركز الثقافي المشِعّ حضاريًّا في قلب واشنطن العاصمة عند ضفة نهر پوتوماك.

وفي مقال كينيكوت أَنَّ “كينيدي وزوجتَه جاكلين، عند كل احتفال رسمي في البيت الأَبيض، كانا يحرصان على دعوة 40 إِلى 50 مبدعًا ثقافيًّا من كل أَميركا يتصدَّرون الصفوفَ الأَمامية في الاحتفال أُسوةً بالضيوف الرسميين”. من ذلك، مثلًا، الاحتفالُ بعرض لوحة “الموناليزا” منقولةً من اللوڤر (پاريس) في المتحف الوطني (واشنطن) بحضور وزير الثقافة الكاتب الفرنسي أَندريه مالرو (الثلثاء 9 كانون الثاني 1963) وتكوكب حول كيندي وزوجته ومالرو وزوجته أُدباء وشعراء وفنانون أَميركيون طَغَى حضُورُهم على “المدعوين الرسميين”.

هذا رئيسٌ دولة عظمى وَعَدَ وَوَفَى: وَعَى أَن مبدعيها خالدون وجُلَّ مَن سواهم، آجلًا أَو “آجلًا”، ذاهبون إِلى النسيان.

هذا رئيسٌ يعرف أَن عظمة أَميركا الوطن من عظمة مبدعيها لا سياسييها، وعلى الدولة التي في خدمة الوطن أَن تحافظ على مبدعيها لأَنهُم هُم صورتُها الخالدة في التالي من العهود والعصور.

هذا رئيسٌ يحترم الثقافة في بلاده ومثقَّفيها فلا يأْتي إِلى إِدارتها بمَن يكون “تسكيرة كوتا” أَو “كمالة عدد” أَو إِرضاءً مذهبيًا أَو طائفيًّا أَو حزبيًّا أَو إِفرازَ محاصصةٍ سياسيةٍ يجتمع لها غيلان البلاد ودينوصُوراتها فيُرشِّحون للحكومة أَزلامَهم ومحاسيبَهم كي يُديرُوهم في مجلس الوزراء بــ”الريموت كونترول”.

ولا نفْعَ ولا أَمَلَ مِن حُكْمٍ يَحكُم بحكومةٍ ذاتِ بيان وزاري معلوكٍ أَجْوَفَ سخيفٍ تَطلُب على أَساسه – لا ثقةَ الشعب والتاريخ اليوم وكلَّ يوم – بل ثقةَ مجلسِ نوابٍ مُعظمُهُم زائلُون ذاتَ يوم، أُمِّيُّون في تاريخِ لبنان وحضارةِ لبنان وأَعلامِ مُبدعيه الخالدين اليوم وكلَّ يوم.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib