يوم كتبْتُ قصيدتي هذه نهارَ مجزرة قانا قبل ربع قرن (1996 – لَـحَّنَها إِيلي شويري وغنَّتْ بها ماجدة الرُومي) وصرخْتُ في وحشيَّة المعتدين الإِسرائيليين: “أَين ستهربون من ردَّة الغضبْ.. في صدر شعبٍ كاملٍ يَحترف الغضبْ”، كنتُ أُوَجِّهُ غضبي إِلى أَعداء شعبنا ووطننا وتاريخنا، ولم أَكن أَحدُس أَنْ سَيَجيْءُ يومٌ يَصُحُّ فيه هذا الغضب ذاتُه على أَهل الحُكْم في لبنان، حتى شاهدْتُ على الشاشات المحلية بثَّ مطلع قصيدتي ترادُفًا مع مشاهد الخراب الأَپوكاليـپـسي في مرفإِ بيروتنا الغالية.
غريبٌ هذا الزمن العاقّ! قبل ربع قرنٍ اعتَدَتْ إِسرائيل على شعب بلادي فَهَبَّ العالم انتصارًا للبنان، واليوم يعتدي حُكَّام بلادي على شعب بلادي فيَهُبُّ العالم انتصارًا للبنان، وإِسرائيل تتفرَّج وتحلُم أَن تُحِلَّ حيفاها مكان بيروتنا مرفأً رئيسًا.
وفيما العالم هبَّ قبل رُبع قرن لنُصرة لبنان الدولةِ المقهورةِ باعتداءِ عَدُوٍّ غاصب، ها هو اليوم (بالمؤْتمر الإِلكتروني الأَربعاء هذا الأُسبوع) هَبَّ لنُصرة لبنان الشعب المقهور باعتداء حُكْمٍ غاصب. صار الشعب، في عُرْف دُوَل العالم، أَهمَّ من دولته لأَن ساسته منصرفون عن الشعب بتَنَاتُش حقيبةٍ طائفية، وتحصيل مداورةٍ مذهبية، وتأْمين پوانتاجاتٍ انتخابية، فيما الشعب يفشل في تأْمين رغيف ودواء ومستشفى.
العالم بات مقتنعًا أَن حكَّام لبنان باتوا اليومَ فاقدي الصلاحية والمصداقية والكرامة، ولا جدوى من ترميم حُكْمه بمن فقدوا الصلاحية والمصداقية والكرامة. وشعبُنا الذي ذاق من حكَّامه ما ذاق، لن يُعيد أَحدًا منهم إِلى مقاعد الحُكْم، لأَن لبنان 17 تشرين و4 آب هو لبنانُ الغضب والتغيُّر، الطالعُ فجْرُه من دماء الضحايا الأَبرياء وذويهم الناوين خَلْعَ كراسي الذين، بإِهمالهم أَو تواطُؤِهم أَو إِغفالهم، سبَّبوا سقوط الضحايا الأَبرياء. ولن ينسى شعبُنا، ولن يغفِر.
بعد 25 سنة على صدور قصيدتي غضَبًا على أَعداء الخارج المعتدين يندلع غضَبُ اللبنانيين على أَعدائهم في الداخل: حكَّام ما زالوا، منذ 4 آب الماضي، يتصرَّفون كأَنهم يَسُوسُون شعبًا مستسْلِمًا بَبَّغائيًّا لهم، مستزلِمًا غبائيًّا أَمامهم.
سوى أَنهم، وعَوا إِراديًّا أَو تجاهلُوا لاإِراديًّا، سيكتشفون أَنَّ لبنان تغيَّر: لبنانهم القديم قبل 17 تشرين الأَول 2019 انتهى، ولبنانهم منذ 4 آب 2020 لم يعُد لهم ولا تابعًا إِياهم ولا هُم يحكمُونه ولو انهم ما زالوا في مقاعدهم. رُبَّ كراسي حُكْم انفصلَ شعبُها عنها وتركَها مقاعدَ أَصنام.
“أَين ستهرُبُون من ردَّة الغضبْ… في صدر شعبٍ غاضبٍ يحترف الغضبْ”؟
صحيح. ولو لم أَكن قُلْتُها في قصيدتي قبل 25 عامًا، ولو كان لي أَن أَكتبَ اليوم قصيدةً لوطني الذي أُكرِّس له قولي وفعلي، لَمَا قلتُ مطلعًا أَفضل من هذا، لأَن شعبَنا اليوم خلَعَ عنه التردُّد منذ 17 تشرين، وخلَعَ عنه الصبْر منذ 4 آب، ويتحفَّز لعصْفٍ هائل لا يعادل تدميرَه سوى عصْف انفجار المرفإِ الذي شوَّه وجهَ بيروتنا الحبيبة، وعصْفُ الشعب صفْعٌ على رؤُوس اليوضاسيين الذين، إِذ ينفجر بهم غضَبُ شعبنا عصْفًا وصفْعًا، لن يجدوا وقتًا حتى ليهربوا إِلى التينات اليابسة.
وسيَشهد تاريخ لبنان المعاصر كيف شعبُنا لم يَعُد ساذجًا، لم يَعُد قطعانيًّا، لم يَعُد اتِّباعيًّا، بل علَّمه 17 تشرين و4 آب أَنَّ الوطن الذي تَفْسُدُ دولتُه بفَساد سُلْطتها، يبدأُ بناءُ مستقبله من دمارٍ ورمادٍ في مرفإِ بيروت، ولا تسترجعُ دولتَه إِلَّا نُخبةٌ جديدةٌ تنطلق من ولاءٍ وحيدٍ وإِيمانٍ واحد: لبنان اللبناني.
هـنـري زغـيـب