في صدى عينيَّ ذانِكَ المشهدان: طفلةٌ تمشي بين الثوَّار وسْط ساحة الشرَف في بيروت إِبَّان أَيام ثورة 17 تشرين حاملةً علَمَ لبنان، والطفلة على كتفَي والدها تتأَمَّل غضبة الثوار.
يومَها لم تكوني تَعِينَ تمامًا ماذا يدُور في غضْبة الثوار. لكنكِ غدًا، يوم تكبَرين في الغياب، ستفهمين ماذا أَنْ كنتِ أَيقونةَ البراءة في تلك الثورة المباركة.
يومَها كان لبنان ينتفض على جلَّاديه، ولم تكُن سنواتكِ الثلاثُ كافيةً لتَعرفي من هُم جلَّادو لبنان اليوضاسيُّون من أَهل البيت.
ويومَ زلزلَتْ بيروت في 4 آب لم يكُن لديكِ الوقتُ كي تخافي، لأَن ذراعَي تْريسِّي احتضنَتَاكِ خوفًا ولم تستطع ذراعاها حماية رأْس طفلتها المدمَّى.
يومان في عمركِ الزغْب: الأَول يومُ اندلاع الوعي، والأَخير يومُ حمم البركان. وفي اليومين لم تفهمي كيف ولماذا. لكنكِ غدًا، يوم تكبَرين في الغياب، ستفهمين كلَّ كيف وكلَّ لماذا. ولن تنسَي ولن تغْفِري.
وحين احتضن پول نعشَكِ الأَبيض الصغير وأَنتِ فيه غافيةٌ ولم تفهمي، كان هو يفهم أَنه لا يضُمُّ جثمان صغيرته وحسْب بل رفات جميع مَن ضاعوا في رماد الركام ولم يتسنَّ لأَهاليهم أَن يلملموا منهم حتى بقايا يضمُّها نعش.
أَيامَها، يا “ليكْسُو”، سبَّب 4 آب “مسيرات النعوش” أَبيضِها وقاتِـمِها. ومشى لبنان كلُّه، ومعه العالم، في جنازات جماعية لم يشهَد مثلها لبنان في أَسوإِ كوارثه.
أَيامَها عـمَّ البكاءُ لبنانَ، والحزنُ العالَـمَ معنا، إِلَّا الذين تسبَّبوا وأَهملوا وتواطَأُوا وكانوا شركاء في الجريمة البَيرُوشيميَّة يومَ زلزال العصر. لم تشعُري به أَنتِ لأَنكِ انهمرتِ على صدر أُمِّك خوفًا، ثم غيابًا. لكنكِ غدًا، يوم تكبَرين في الغياب، ستشعرين استعاديًّا بما جرى، وسوف يصيبكِ الذهول ارتداديًّا، ولذا لن تنسَي ولن تغْفِري.
أَيامَها، وكنتِ رحلْتِ فلم تسمعي والدَيك الـمُضَمَّدَي الوجْه واليَدَين يَنْذُران بكل ثقة لبنانية، قالت تْريسِّي بحزْم: “هجَّروا طفلتي مني لكنهم لن يهجِّروني من بلَدي. لن أَكفُر بوطني. سنبقى هنا ولن نغادره مهما صار، وسنعمل على إِعادته فيعود جميلًا على صورة ليكْسُو”. وقال پول: “طفلتي ليست شهيدةً بل ضحيةُ مجرمين أَحرقوا وطننا بإِهمالهم والتواطُؤ. ولي هنا رسالتان: أُولى رسالة حب لأَن حياتنا في البيت قامت على الحب الشخصي وعلى حب لبنان، ورسالة إِلى شعب لبنان أَن يتوحَّد فيفكَّ ارتباطاته بجميع هؤُلاء المجرمين. وسوف أَظلُّ أَسمع صوت ليكْسُو تسأَلني: “بابا، ما رح نروح اليوم إِلى الثورة؟”. وسوف، بلى، سوف نعود إِلى الثورة، وسوف نظلُّ نذهب حتى ينتصر لبنان على يوضاسييه، وتكون معنا ليكْسُو مِن حيث هي اليوم”.
أَيامَها، يا ليكْسُو، كانت بدايةَ ثورة لم تنتهِ بعد، ولنْ. ستبدأُ كلَّ يوم حتى يكون فجرٌ يُشرق لا بشمسه بل ببَسمتكِ الأُغْنُوجة وأَنتِ حاملةٌ علَمَ لبنان عرشًا على كتفَي والدكِ الشاب المكتنِز إِيمانًا بقُدرة لبنان اللبناني على التغيير، وسوف تكونين في ساحة الشرف وفي كل ساحة من لبنان، أَيقونةَ براءةٍ تُغيِّر مصيرَ وطنٍ قَدَرُه أَن يَطرد فرِّيسيِّيه من هيكله المبارك بأَرزة لبنان وفي قلبها طهارةٌ بصورة طفلةٍ اسمُها أَلكْسنْدرا نجَّار.
غدًا، يوم تكبَرين في الغياب، ستشهَدين لبنانَ أَبيكِ مُطلًّا من ضحكة عينيكِ اللُؤْلُؤَتين، وتكونين كَبُرتِ فتَفهمين، لأَنكِ في الغياب، كيف ولماذا لن تنسَي ولن تغْفِري.
هـنـري زغـيـب