يَعجَب البعض من الأَصدقاء كيف ما زلتُ أَكتبُ تفاؤُلًا، والبلد يغرق إِلى أَسوإِ أَزْمةٍ وأَقسى حالةٍ في تاريخه الحديث.
ويَعجَبون كيف لم أَيأَسْ بعدُ من التشديد على وقْع الكلمة في مسؤُولين يضارعون بصَلَفهم جلودَ التماسيح.
طبعًا لم أَيأَسْ ولن أَيأَس.
وسأَظلُّ أَكتُب لأَن الكلمة أَشدُّ وقعًا جَماعيًّا من أَيِّ سلاحٍ فرديّ. واعٍ أَنا أَنَّ التغيُّر لا يكونُ ولن يكونَ بين ضُحًى وغَسَق، لكن الكلمة المتواصلة المتكرِّرَة تحفُر الصخر يومًا بعد يوم. الصخرُ صَلْدٌ لا تكسِرُهُ شكَّة الإِبرة إِنما تَخْرُقُهُ نقطةُ الماء تنزل متواصلةً متكرِّرةً عليه فتحفُر فيه أُخدودًا عميقًا.
ولَن أَيأَس.
الحاجةُ اليومَ أَن تتضافرَ الأَقلام في حفْر الصخر كي تخترقَه الكلمةُ ولو بعد حين. ولْنتذَكَّرْ بأَن الثورة الفرنسية لم تندلع فُجاءةً في الرابع عشر من تموز 1789، بل هيَّأَ لها الكُتَّاب سنواتٍ قبْلَذاك، وكانت كتابات ديدرو وڤولتير وروسو ومونتسكيو ومعاصريهم هي الشرارةَ التي أَوقَدَت شُعلةَ البركان حتى انفجرَ ذات انخَلَعَت بوابة الباستيل.
ولَن أَيأَس.
هكذا نحن: فلتتجنَّدْ أَقلامُنا وأَفكارُنا ونصوصُنا لشَحن شعبنا وعيًا وغضبًا. ليس كالكلمات تأْثيرًا في الوعي الجَماعيّ والغضَب الشعبي والثورة المباركة. وأَعجَب من كثيرين بين رفاقي وزملائي وأَترابي ممن قدَرُهم الكلمة، أَلَّا يكتُبوا بإِلحاحٍ وتَوَاصُلٍ وحميَّةٍ كي تَفعلَ كتاباتُهم في شعبنا فتَدفَعَه إِلى خلْع الكراسي ومَن على الكراسي، خلْعِ المقاعد ومَن على المقاعد، خلْعِ المناصب ومَن في المناصب، خلْعِ الأَلقاب وحاملي هذه الأَلقاب الكرتونية جميعِها. الكِلْمة وحدها مَؤُونة الثوار.
ولَن أَيأَس.
أَفهم أَن تكون للزملاء ضروراتٌ كتابيةٌ في صحُف ومجلات ومواقع تُضطرُّهم إِلى تأْمينها ضروراتُهم الحياتية، إِنما مع تلك الكتابات العادية فليخصِّصوا بعض كتاباتهم لِلُبنان، ولْيخْلعوا كلَّ تنظيرٍ إِيديولوجيٍّ مستورَد، وكلَّ انتماءٍ لغير لبنان. الإِيديولوجيا الوحيدة الملحَّة اليوم هي لَبْنَنَةُ كتاباتنا كي نُعيدَ إِلى وطننا بعضَ حقِّه علينا. لهذه الإِيديولوجيا الوحيدةِ أَكتُب وسأَبقى أَكتُب.
ولَن أَيأَس.
أَصدَقُ عقيدة: زيتونةٌ مباركةٌ في الجبل. أَقوى انتماء: آخرُ شبْر من أَرض لبنان. أَنصعُ حزب: أَرزةٌ تَسْطع في قلبٍ لبنانيٍّ كما هي ساطعةُ القلْب في عَلَم لبنان. فَلْنَكْتُبْ نَكْتُبْ نَكْتُبْ. باطلُ الأَباطيل هذا الوضعُ القاتلُ لكنه زائل. وغدًا شمسٌ جديدةٌ تُشرق من تلَّة لبنان طاردةً هذه الوحولَ المقْرفةَ ومسبِّبيها اليوم، وهذا الزَبَدَ الوسِخَ وحامليه اليوم، وتبقى للتاريخ ناصعةً كلماتٌ نكونُ أَضأْناها شموعًا نقيَّةً في معبد لبنان اللبناني، نقيةً من كلِّ هُوية إِلَّا هُويةَ لبنانَ اللبناني، نقيةً كالقَسَم الذي يرفع يمينَه كلُّ رئيس جمهورية مُقْسِمًا أَن يحافظ على الأُمَّة اللبنانية، فلا أُمَّةَ لنا إِلَّا الأُمَّةُ اللبنانية كما حدَّدها الدستور: أُمَّةُ شعبها على أَرض لبنان وأُمَّةُ اللبنانيين المشَعشِعين على كل أَرض من هذا الكوكب.
ولَن أَيأَس.
وسأَظلُّ شَغوفًا بهذا اللُبنان حتى أَرى الانشغافَ به دفَعَ شعبَه إِلى تحطيمِ أَصنامٍ أَوصلُوه إِلى السقوط، فيُطلَّ جيلٌ جديدٌ ممَّن يتولَّون حكْمه، مواهبَ خارجَ المذاهب، رجالًا أَنقياءَ يُعيدون بناءَ الدولة المنهارة على أَنقاض أَصنامها المكرَّسين. فالبلادُ تَموت من حُكْم الأَصنام، وتَحيا وتغْتذي من دَمِ الحياة في شرايينِ أَبنائِها الطالعةِ نقيَّةً نابضةً من قلب الحياة.
هـنـري زغـيـب