مع انفجار وباء كورونا وبلوغِ شظاياهُ أَبعدَ زوايا كوكبِنا الأَرضي، تشظَّت معه عاداتٌ جديدة تتكرَّس يوميةً كوضع الكِمَامة، وغسْل اليدين، وتجنُّب التجمُّعات. ودرجَت تعابيرُ جديدةٌ على قاموسنا اليومي، منها الخاطئُ كـ”التباعُد الاجتماعي” (والأَصح: “التباعُد الجسَدي” وهو لا يُلغي التقارُب الاجتماعي) ومنها السخيف كتعبير الدولة “الوُلوج والخُرُوج”، وتعبير “مناعة القطيع” على ما فيه من احتقارٍ جنسَنا البشري وتقريبِه من فكرة القطيع الحيواني، مع أَن في الشعوب عادةً ظاهرةً قطعانيةً تَظهر في انقياد فئةٍ إِلى زعماء سياسيين يقودون محاسيبَهم وأَزلامَهم بمنطق الكرَّاز يتبع رنينَ أَجراسه القطيعُ عميانيًّا ولو أَودى به إِلى الهلاك.
ونحن أَيضًا في شعبنا مَن ينقادون قطعانيًّا إِلى زعماء سياسيين ورثوا زعامتَهم عن آباء وأَجداد وورثوا معها تكريز أَزلامهم بمنطق الأَمر المطلق والقيادة العمياء، فينقاد هؤُلاء الأَزلام عميانيًّا، ويطيِّبون ويهيِّصون ويعيِّشون الزعيم ويَفْدونه “بالروح بالدم” مهما قال، وأَيًّا حالفَ، وأَنى وكيفما وحيثما ولا جدال، ولا نقاش في صوابية مواقفه وتصاريحه ومبادئه وآرائه وتحالفاته وتفاهماته وتكتلاته وارتباطاته السياسية.
هذا هو منطقُ القطيع في بعض شعبنا المنقاد عميانيًّا قطعانيًّا، وهذه هي مناعة القطيع التي يتمسَّك به وبها زعماء سياسيون مرتاحون إِلى ولاء كتلتهم الانتخابية تَدين لهم بنور الشمس ورغيف الخبز، وتجدِّد لهم عميانيًّا، وتؤْمن بهم قطعانيًّا، وتخاصم من أَجلهم حتى إِخوةً وأَقارب.
غير أَن هذه ليست مناعة القطيع بل هي لعنة القطيع.
نعم: في بعض شعبنا لعنةُ الانقيادِ إِلى زعماء ورؤُساء ووزراء ونواب وقياديين، ما يجعل هؤُلاء في الحُكْم متحكِّمين، وخارجَ الحكْم متربِّصين، مطمئِنين إِلى ما يسمونها “قاعدتهم الشعبية” فيظلُّون متربِّخين على رؤُوس الناس وأَكتافهم، من جيل إِلى جيل، ومن عهد إِلى عهد، ومن حكومة إِلى حكومة، ومن وزارة إِلى وزارة، ومن ولاية نيابية إِلى أُخرى تالية ومتتالية. عسى أَن يستفيق هذا البعض فينجو من عقلية القطيع وانقيادية القطيع، قبل أَن يسقط في الهاوية.
لكنَّ في شعبنا، بالمقابل، مَن يرفضون هذا القطيع ومناعتَه، مَن هُم خارج القطيع الأَعمى، خارج الأَحزاب والكتَل والتكتُّلات والتيارات والإِيديولوجات والتأَدلج والأُدلوجات السياسية السطحية، وهُم مستقلُّون فعلًا، أَحرارٌ فعلًا، ليبراليون فعلًا، عَلْمانيون فعلًا، مستحقُّون جدارةً أَن يكونوا في الحكْم، وهم المأْمول أَن يكونوا مرشَّحي الانتخابات المقبلة.
بلى: في وطننا موهوبُون في كل حقل، هنا على أَرضنا، وموزَّعون في كل أَرض من ديار الدنيا، وهُم المنادى عليهم كي يتكتَّلوا ليكسروا قيود المنقادين قطعانيًّا، ليحطِّموا أَساطير السياسيين الأَصناميين الرابضين على أَكتاف شعبنا منذ عهود وعقود، ليقتحموا أَسوارَ الأَسماء المكرَّسةِ لعنةً على وطننا، وليَطردوا المكرَّسين عن كراسيهم ومقاعدهم الرئاسية والوزارية والنيابية والسياسية عمومًا، فيكونَ في لبنان جيلٌ جديدٌ لامُنْتَمٍ إِلَّا لعِلْمه وخبرته ورؤْيته ورؤْياه، خارج حظيرة الممسكين بقدَر البلاد وها أَوصلونا إِلى تَفَتُّت البلاد وتَفَكُّك المؤَسسات وانهيار النقد والاقتصاد، وجعلونا بقطعانيَّتهم الحقيرة شحَّادين على أَرصفة الدول، ننتظر بطاقة الإِعاشة كأَيِّ شعبٍ مطرودٍ لاجئٍ ونحن ما زلنا على أَرضنا.
مناعةُ القطيع؟ لا. بل مناعةُ الوعي الشعبي. لعنةُ القطيع؟ لا. بل اللعنةُ على مَن ورِثناهم لعنةَ أَن يَسُوقوا شعبنا قطيعًا أَعمى.
خلاصُنا ليس في انتخابات عادية هذه المرة، بل في انقلابٍ على مُكَرِّزي القطيع، وفي إِيصال طبقة لبنانية جديدة من حكَّام يكونون هُم في خدمة الشعب، ولا يقودون الشعب عميانيًا في خدمتهم، طبقةِ موهوبين نجحوا في لبنان وحيثما هم في بلدان العالم، مستحقِّين أَن يؤَسسوا دولةً جديدة وُثقى، وأَن يَبنوا لها سلطةً لا تُميِّز لبنانيًّا عن آخر، حتى نستحقَّ عندئذٍ لبنانَ الحضاري التاريخي. فليس المهم أَن نفتخر بالأَرز، المهمُّ أَن يفتخر الأَرز بنا.
هـنـري زغـيـب