أَيضًا وأَيضًا أُكرِّر (وقد أُكرِّر بعد) أَنني، حين أَقول “لبنان”، أَفصل بين ثلاث: صورة لبنان الوطن، ودولة لبنان، وسُلطة الدولة.
الثابث الخالد: لبنان الوطن. الدولة قد تتغيَّر فتَدُول، وسُلطتها قد تفشل فتسقط.
وأَقرأُ في الصحافة أَو أُتابع في الإِعلام كلامًا عن لبنان بصيغة الماضي، يتبارى به كُتَّاب أَو متحدثون يتحسَّرون على لبنان الذي “كان بلد الإِشعاع”، وفي بالهم سياحتُهُ أَو حياته الاجتماعية أَو مصايفه أَو مطاعمه أَو هناءَة العيش فيه، وهذا موجود مثْلُه في العالم. نحن لم نصادر الصنوبر ولا السماء الزرقاء ولا الفصول الأَربعة. هذه موجودة عند سوانا مع فرق أَنها، حيثما هي، مُكرَّمة ومحافظٌ عليها بيئةً ونظافةً واهتمامًا بمعالمها.
الدولة تدُول، بمؤَسساتها تدُول، بهيكيليَّتها تدُول فتصبح من الماضي بأَشخاصها الأَصلًا زائلون عابرون كالزبد العابر. والسُلطة، خادمة الدولة، قد تفشل وتصبح من الماضي بعُقم سياسييها وغبائهم فتُزعزع أَركانَ الدولة وتَسقط هي والأَركان. وفي لبنان دليل فاقع على فشَل السلطة وسياسييها الفاسدين مسبِّبي زعزعة الدولة.
لبنان الوطن أَعلى وأَبقى من العوابر. هو الإِرث الخالد، هو التراث الخالد، هو التاريخ الخالد، هو الحضارة التي يُقرُّ بها العالم في الكتب العلمية والتاريخية، وتغيب عن جهَلةٍ عندنا لا يقرأُون تاريخ بلادنا. هذا الــ”لبنان الوطن” هو الــ”لا يزول” ولو دالت دولةٌ فيه كرتونية هشَّة، ولو سقطَت سُلطة فيه فاشلة عقيمة لم تعرف كيف تتولَّى مؤَسسات الدولة وتطبِّق دستورها ونظامها وقوانينها وتُدير شؤُون مواطنيها.
لبنان الدولة والسلطة هو معظم رؤَسائها ووزرائها ونوابها وزعمائها وسياسيين تافهين فيها يتناهشون خيراتها من حقوق الشعب، لكنهم زائلون يسقطون في الفعل الماضي ومصيرُهم النسيان تحت غبار السنين.
لبنان الوطن رجالٌ عظماء عمَّروا إِرثه وتاريخه وحضارته، هم الآباء المؤَسسون في كل عصر، يَخْلُدُون مع كل عصر ويَخْلُدُ بهم لبنان الوطن/الإِرث/التاريخ/الحضارة. وهذا اللبنانُ ساطعُ الماضي والحاضر والمستقبل ولا يكون ولن يكون أَبدًا بصيغة الـ”كان”. إِنه هوية ما هو كائن وخالد، وما سوف يكون ويَـخْلُد.
هويةُ لبنان اللبناني هي هويةُ “لبنان الوطن”، وليست هويةَ دولته المتغيِّرةَ وفْق مزاج أَركانها ومصالحهم، ولا هويةَ سلطته المتَثَعْلبَة وفق انتماءات سياسييها الحرباويين وارتباطاتهم الخارجية وتكتُّلاتهم الداخلية وحساباتهم الانتخابية يطيحون لأَجلها قانونًا أَو يغيِّرون دستورًا أَو يعطلون حياة پرلمانية أَو حكومية لإِيصال حليف أَو لإِعاقة وصول خصْم.
العالم الحضاري، حين يقول “لبنان”، يقصد “لبنان الوطن” الساطعَ الحضور في العالم، يَذكُرُ التاريخ عظماءَه المبدعين في كل عصر، ويُهمل عابرين تافهين في دولته وسُلطته، سياسيين آنيين ظرفيين موَقَّتين زائلين من أَعلى الهرم التنفيذي والتشريعي والإِجرائي إِلى أَدنى عمَلاء وأَزلام ومحاسيب ومستزلمين متغلغلين في شرايين الدولة مصاصينَ دماءَها.
إِلى وطن هذا الـ”لبنان اللبناني” أَنتمي، وينتمي إِليه الأَنقياء الواعون عظمةَ لبنان الوطن.
أَما المنتمُون إِلى لبنان الدولة وهذه السُلطة، فمصيرُهُم التفَتُّت مع تفتُّتِهِما وسقوطهِما التلقائيّ في عتمة الإِهمال والنسيان.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib