صباحَ لبنان وزهر لبنان ووروده وعُطوره.
سأَبتعد معكم اليوم عن الأَجواء الضبابية القاتمة التي تحوِّم فوق لبنان فتسمِّمُ هواءَه وتخنق شعبَه، لأَسيح معكم في حقول لبنان الربيعية بين أَشجار الليمون وأَغمار الورد المتهيئة لفَوَحان العطر على ربوع لبنان.
نتوجَّه جنوبًا، نتوقَّف في مغدوشة، وفي أَرجائها مع مطلع الربيع يضوع عطرُ الزهر الأَبيض من أَشجار ليمونها البوزْفير (“بو صفير” كما تسمِّيه العامة) فيَنْدَه الزهرُ موسمه للقطاف، حبَّةً حبة، ليُجمَع ضُمَّةً ضُمَّة، يُعرضَ قسمٌ منه للبيع، ويذهب القسم الآخر إِلى التقطير كركةً كركة ليصاغ منه ماءُ الزهر (“المازهر” كما تسميه العامة) فينتقل من بيتٍ إِلى بيت، يُنعش الروح والقلب والشم العميم، ويكرِّس مغدوشة “عاصمة الذهب الأَبيض”.
ننتقل شِمالًا، نتوقف في الضنية، وهي منذ مطلع أَيار تعبَق بأَرج الورد من حقولها المعطَّرة بأَزرار الورد، يجمعُها الأَهالي زرًّا زرًّا، ثم باقةً باقة، كما يحصل أَيضًا في حقول القلَمون وسائر الكورة، ويُحفظ نضِرًا حتى تُحمَلَ أَكوام الورد ورائحتِها الزكية إِلى التقطير في الكركات، لينهملَ منها نقطةً نقطةً ماءُ الورد (“الماورد” كما تسمِّيه العامة)، يذهبُ بعدها إِلى البيوت ومحالِّ الحلويات، وكماء الزهر، يتقطَّر على قطعِ الحلوى تشتهيها العين قبل تبلغُ الشفتين فيحلو المذاقُ، كما كان حاليًا في وساعة الحقول شمًّا في حنوات وضمًّا في باقات.
ومن الشِمال إِلى البقاع، نتوقَّف في قصر نبا (قضاء بعلبك)، تندهنا إِلى حقولها مع ساعات الفجر الأُولى زَوغَة الأَهالي يقطِفون أَزرار الورد قبل شرُوق الشمس، كي لا تنهالَ أَشعتُها على الوردات المقطوفة فتذوي روحُها في الأَوراق ويهرب منها الأَرج، لذا يعجِّلون في بيعها قبل ذبولها، أَو يجمعونها عند الكركات كي تتقطَّرَ منها لآلئُ “الماورد” وتذهبَ إِلى البيوت غمزةَ كرمٍ في صواني الضيافة.
نختم الجولة هنا؟ لا.
نختمها بما هو أَجمل: قبل أُسبوعين صدر في پاريس كتاب “صيَّاد العطور – غوصًا على المنابع الطبيعية لتَشَكُّل العطر في العالم” (منشورات “غراسيه”) للباحث الفرنسي في شؤُون العطر دومينيك روك، الذي جال على 50 بلدًا في العالم بحثًا عن المواد الأَولية المكونة العطور. نفتح كتابه فنقرأُ ما يلي: “عمْر العطر نحو 5000 سنة، والبَخور وشجرُ الأَرز في لبنان أَقدَم مصدَرَين للعطر في تاريخ الإِنسانية”.
هكذا لبنان إِذًا: أَصل عريق من منابع العطر في التاريخ.
وهكذا نفهم ما جاء في “نشيد الأَناشيد”: “هَلُمِّي معي يا حبيبتي، يا عروسُ من لبنان، حبُّكِ أَلذُّ من الخمر، عطرُ أَدهانكِ أَطيب من جميع الأَطياب، رائحة ثيابكِ كرائحة لبنان، أَغراسُكِ فردوسُ رمَّانٍ وثمارٍ نفيسة، بين الحِناء والنارْدِين، قِرفةٌ ومرٌّ وَعُودُ لُبَان، حبُّكِ ينبوعُ جنَّاتٍ ومياهٍ عذْبةٍ لأَنهار لبنان“.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib