تروي الصحافية الفرنسية Corinne Lhaïk في الفصل الثاني عشر من كتابها “الرئيس السارق” عن إِيمانويل ماكرون (منشورات فايار-330 صفحة) تفاصيلَ زيارته إِلى الڤاتيكان (الثلثاء 26 حزيران 2018) وطلَبِه نسخةً من الطبعة الأُولى لكتاب “يوميات كاهن في الريف” للكاتب الفرنسي جورج برنانوس (1888-1948) في ترجمتها الإِيطالية (الصادرة سنة 1946 عن الطبعة الفرنسية الصادرة سنة 1936). كان في حرص الرئيس الفرنسي أَن يقدِّم للبابا فرنسيس هذا الكتاب بالذات لكون مؤَلِّفه كاثوليكيًّا وَرِعًا يجْمُلُ أَن تكون نسخةُ كتابه في مكتبة عاصمة الكَثْلَكَة.
قبل أَربعة أَيام من موعد الزيارة، تلقى السفير الفرنسي فيليپ زيلِر اتصالًا من الإِيليزيه يطلب منه سريعًا تأْمين نسخةٍ إِيطالية، ولو قديمة ولو مستعمَلة، من هذا الكتاب النافد منذ صدوره قبلذاك بثلاثة أَرباع القرن. هرع السفير يستفسر لدى المكتبات وجامعي الكتب القديمة، حتى أُفيد عن نسخة (قد تكون) موجودة لدى بائع كتب عتيقة في بلدة كامپانيا (240 كلم عن روما جنوبًا في منطقة ناپولي). طار إِليها مساعدُه وعاد مساءً إِلى ڤيلَّا بوناپارت (مقر السفارة الفرنسية في روما) ومعه نسخةٌ شبهُ مُشَلَّعة، أَرسلَها السفير إِلى محترف تجليدٍ للكتُب كي يضع لها غلافًا جديدًا أَنيقًا لائقًا بانتقالها من يد ماكرون إِلى يد بابا روما. وعن “الفيغارو” (27 حزيران) أَن أُسقف روما، الآتي إِلى بابوية بطرس من مطرانية بوينس آيرس، “قدَّر عاليًا تلك الهدية بالإِيطالية من كتاب بالفرنسية لم يكن يعرف عنه”.
الشاهد من هذه القصة أَن الرئيس الشاب الذي استقبله البابا في أَطول زيارة رئاسية (57 دقيقة، بينما استقبل قبله فرنسوا هولاند 35 دقيقة، وباراك أُوباما 50 دقيقة، ودونالد ترامپ 30 دقيقة) لم يُهْدِ رأْس الكنيسة منتجًا فرنسيًّا تجاريًّا أَو صناعيًّا أَو سياحيًّا (كما يحصل عادةً في الزيارات الرئاسية) بل اختار له إِرثًا أَدبيًّا من فرنسا ابنةِ الكنيسة وأُمِّ العَلْمَنَة، لاعتزازه بأَدب بلاده ومبدعيها الخالدين.
والشاهد أَيضًا أَنْ هكذا، في الزيارات الرسمية، يُهدي رؤَساءُ الدول وكبارُ سياسييها مستضيفيهم الرسميين، بكل اعتزازٍ نتاجَ بلادهم الإِبداعي عنوانًا لبلدانهم يبقى بعدما يزولون، وهم أَصلًا عابرون كمعظم السياسين، زائلون كالغيم العابر.
يحصل هذا حين أُولئك الضيوفُ الرؤَساءُ أَو كبارُ السياسيين مثقَّفون لا أَشباهُ متعلِّمين، أَو على الأَقل حين لديهم مستشارون ثقافيون لا أَزلامٌ أُمِّيُّون ولا محاسيبُ جهَلَة ولا زبائنيون منتفعون ولا مصفِّقون تعيـيشيُّون تافهون في خدمة رؤَساء أَو حكَّام أَو سياسيين لا قيمة لهم خارج “حظيرتهم” السياسية.
إِن رئيسًا أَو سياسيًّا يَزور بلادًا يقدِّم لِمُضيفه فيها أَثرًا أَدبيًا أَو عملًا فنيًّا من مبدعٍ في بلاده، يَعني للمُضيف أَن هذا الزائر جديرٌ بتراث بلاده، وليس مجرَّد طارئٍ سياسيٍّ عابرٍ في زمن بلاده كالغيم العابر.
هـنـري زغـيـب