في التحديد العلْمي أَن السُوسيُوپاتيا Sociopathie مرضٌ نفسيٌّ يَتَمَظْهَر في اضطراب الشخصية، فيُبدي المريض السوسيوپاتي كُرهًا جميعَ مَن حوله، وعَدائيةً حادَّة، وفشلًا في ضبْط أَعصابه وإِقناع الآخرين بمواقفه، وهي عاهاتٌ نفسية تنعكس جسديًّا على وجهه الكالح وملامحه البغيضة ولهجته المتعثِّرة واضطراب لسانه في مخارج الكلمات.
هذه العاهات تشكِّل تصرفاته ضدَّ السوى، وقناعته أَنه غير مسؤُول عن أَخطاء تصرفاته، وأَن الآخرين يتَّهمونه وهو بريْء، فلا شعورَ لديه بأَيِّ ذنْب أَو اقتراف. هكذا تتضخَّم نرجسيَّتُهُ في “أَنا” مروَّسة وَقِحة ممجوجة مكروهة منبوذة مِن جميع مَن حولَه، فينْأَون عنه ويحقدون عليه جِلْفًا أَحمق، مدركين أَنه لن يصغي إِلى نصائحهم وملاحظاتهم لاعتباره إِياهم مخطئين ووحده على صواب.
هنا خطورة السُوسيُوپاتيين في المجتمع لأَنهم أَعداء بيئتهم ومجرَّدون من أَيِّ شعورٍ بالمسؤُولية. وهذه العَدائية تجعلُهم ميزَنتروپيين (الميزنتروپيا تحديدًا: مرضُ كُره الآخرين والحقد عليهم) وتاليًا هم مُدَّعون مغرورون لا يقبَلون نُصحًا ولا يناقشون في التواءَات تصرُّفاتهم.
وقد يبلغ المرَض بالسُوسيُوپاتيين والميزَنتروپيين أَن يصبحوا ميتومانيين (مرضُ الميتومانيا تحديدًا: عادةُ الكذب المتواصل حتى يصبح الميتوماني يصدِّق كذبته قبل الآخرين ويتعامل معها على أَنها واقع حاصل). هذا يذكِّرني بجوزف غوبلز (1897-1945) رئيس جهاز إِعلام هتلر، وصاحب مقولة: “إِكذِبْ إِكذِبْ إِكذِبْ حتى يصدِّقَ الناس كذِبَك”. وبالفعل ظَلَّ يكذِب ويضلِّل الناس حتى انتهى منتحرًا بعد سُويعاتٍ قليلة من انتحار هتلر على أَمتار من رماده.
جئْتُ على ذكْر غوبلز وهتلر لأُشير إِلى أَن مرضى السوسيوپاتيا والميتومانيا والميزَنتروپيا يظل تأْثيرُهم محدودًا بهم ومحصورًا في حلقتهم الاجتماعية الضيِّقة. سوى أَنَّ خطرهم يكبر حتى تَسَبُّبِهِم بالفاجعة الجَماعية والكارثة الوطنية حين يصلون إِلى مركز القرار أَو كرسيّ الحكم فيُصبح ضرَرُهم أَكثرَ فداحةً وأَسوأَ حصيلةً، ولربما أَدَّى تصَرُّفُهم الأَرعن إِلى خراب الوطن وانهيار نقْده واقتصاده وتَشَرُّدِ أَهله وتهجيرِهم وتشتُّتِهم في بقاع الأَرض شحَّادين عند أَرصفة الدُوَل وأَبواب السفارات ومخيَّمات اللاجئين.
ولعلَّ مسار التاريخ الحامل نهاية الدكتاتوريات من أَشباه هتلر وموسُّوليني وتْشاوِشْسكو لا يُشكِّل ظاهرةً إِلَّا لكتَّاب التأْريخ والمؤَرِّخين، لكنه قلَّما يشكِّل وازعًا لرعونة السوسيوپاتيين والميتومانيين والميزَنتروپيين حين يَبْلُغون مراكز القرار أَو كراسي الحُكْم، لأَن هذا البُلوغ يُعميهم عن فداحة تصرُّفاتهم فَيَتَطَاوَسُون ويضْرب الغرور يَأْفوخَهم وتُعمي السلطةُ عيونَهم إِلَّا عن رؤْية وَجْهِهم في مرآتهم يَخطُبون أَو يُصْدرون الأَوامر أَو يقرِّرون ما يُسيْءُ إِلى شعبهم ووطنهم، فإذا بشخصانيَّتهم تقود شعبَهم إِلى الهلاك ووَطنَهم إِلى الانهيار وبلادَهم إِلى العُزلة عن محيطِهم والعالَم، حتى إِذا انفجَر الوضع في البلَد راحوا يَبحثُون عن كبْش أَو ضحية، ويتملَّصون من ذنْبِهم بحُجج ركيكة مفضوحة كاريكاتورية تُغضِبُ لشدَّة ما هي مأْسوية، فيسقطون من الحكْم، ويرقُص الشعب على جثَثِهم انتقامًا، وتَلعنُهم ذاكرة التاريخ، هُم ونسلَهم، ما بقيَت نابضةً حيَّةً ذاكرةُ التاريخ.
هـنـري زغـيـب