زوغةَ عرسٍ يوميَّةً كان، نهارُهُ فردوسُ حياة، أَرصفتُه منصَّاتُ عبور، أَشجارُه حرَّاسٌ مسالمون، محالُّه أَصواتٌ ملوَّنة، ليلُه شمسٌ توزِّعُ الظِلال الحانية، مقاهيه أَسئلةٌ تعانق أَجوبَتَها، مطاعمُه ملتقى الساعين إِلى الفرح، واسمُه، وحدَه اسمُه، عاصمةُ العاصمة.
زُرتُهُ قبل يومين. لم أَعرفْه. كأَنْ لم يكُن يومًا شارعَ الحمراء. لا وجهَه عرفْتُ ولا قامتَه. حزينًا حتى الدمع كان، كما أَرملةٌ في عزاء. المحالُّ تعاسةُ وُجوم، الأَرصفةُ انبساطُ فراغ، الأَشجارُ واجمةٌ تدير وجهَها كي لا ترى انبساطَ الفراغ، المقاهي زجاجٌ سَمَّكه غبارُ الشوق إِلى روَّادٍ لن يمسَحوا عنه خيالات النسيان، والمطاعم خالية إِلَّا من كراسٍ متعانقةٍ بأَسى الانحناء المهزوم.
لم أَعرف فيه ولا “هُنا”. وفي بالي باقةٌ من “هُناهُ” لا تَذبل في ذكرياتي. هنا مقهى كان يرتجلُه الشعراء منبرًا لِـــلَأْلَأَة القصائد. هنا مطعم كان يرتجلُه الصحافيون أَعمدةً ولا جريدة، هنا مقهًى رصيفيٌّ كان يحجُّ إِليه عاشقان. ينتظرها فَتَصِل، يتَملَّاها فتَنخفض جفونُها خفَرًا، وفوقَهما تضحكُ أَزهارُ المانيوليا وهي تسمَعُه يقول لها: “حبيبتي أَنتِ”، فيتردَّد همسُه لها في حنايا شارع الحمراء. هُنا مسرحٌ كم جَمَعَهُما معًا، مرةً في مسرحية خرجَا منها والمطرُ على الباب رَذَّذَهما وهو يرافقها إِلى موقف السيارات، ومرةً خرجَا من المسرح إِلى مطعمٍ جار، غرَّدا فيه انطباعاتٍ مع أَصدقاء… كلُّ “هُنا” في الشارع له منهما وقعٌ ولمعةٌ وومضةُ ذكريات.
أَين هي اليوم؟ لم أَجِد في شارع الحمراء أَيَّ “هُنا” من هُنيهات الأَمس. حزينًا كان الشارع، وضئيلًا كان فيه مرورُ العابرين، وذاك المقهى الذي كانا يَزوغان إِليه لهفةً وانبهارَ عِشْق وَوَلَهٍ وَوَلَعٍ ولا أَعذب، ساكتًا كان، وعلى كرسيَّيْهما تجمَّعَت نُتَفٌ من أَوراق المانيوليا نسِيَت هي الأُخرى لونَها أَيام كان يغمِزُ إِلى زوغةِ ذينك العاشقَين.
أَين هو اليوم شارع الحمراء؟ أَين روحُه الحمراءُ بزَهْو العُرس؟ ساكنةٌ روحُهُ انفصلَت عن نبْض الجسد. وللأَمكنة روحٌ لا تموت وإِن سقَط الجسد. تحزَن الأَماكن حين تفقِد ذاكرتها. وها روحُها اليوم مكسورةٌ على صدى الفراغ. أَيُّ حياةٍ لروح المكان حين يَغيبُ عن المكان الجسد؟ هي الأَحداثُ في الوطن سَحَبَت من الأَماكن الروح فاستسْلَمَت للقدَر الفاجر. أَيُّ نبْض للمكان ولا روحَ فيه؟ الناس روحُهُ، ومتى غابوا أَيُّ عذرٍ للروح أَن تبقى؟ أَيُّ حديثٍ للحب متى غاب عن المقهى العاشقان؟ للأَمكنة ذاكرةٌ فأَيُّ ذكرى تبقى حين تبكي أَلوان الذاكرة؟
الذين سبَّبوا هذا الخَواء، في شارع الحمراء كما في كلِّ الوطن، سحَبوا الروح من الأَمكنة فلا أَقلَّ من أَن تنصَبَّ عليهم لعنةُ الروح وهي أَلْهَبُ نارًا من لعنة الكلام. أَيُّ نفْعٍ للمكان ولا روحَ فيه؟ أَيُّ صدًى وليس من صوت؟ أَيُّ وطنٍ ولا زوغةَ عرسٍ فيه، وما في الوطن سوى زعيقِ ذئابٍ وفحيحِ أَفاعٍ وأَشداقِ ثعالب؟ أَيُّ وطنٍ ولا عرسَ ينهمِلُ في كل ضَوْءةٍ كما في شارع الحمراء؟
زُرتُهُ قبل يومين. لم أَعرفْه. وأَنا مُغادِرُهُ، تركتُ على كرسيَّـيِّ العاشقَين نِظْرة وعدٍ أَنْ سيعودان، وسَوفَ تضحكُ فوقهُما من جديدٍ أَزهارُ المانيوليا، وسوف يعودان للهَدهَدةِ معًا وهُما، متخاصِرَين حُبًّا، يخرجان من مقهاهُما المعتاد في شارع الحمراء.
هـنـري زغـيـب