هذه (في العنوان أَعلاه) إِحدى الأَفكار التي دوَّنها فرناندو ﭘِـسْوَى (1888-1935) وصدرَت في كتابه “اللاطُمأْنينة” نحو نصف قرن بعد وفاته (1982)، وكان ترك كومة أَوراق مبعثرة تضم 550 نصًّا قصيرًا ومتوسطًا بين مقاطع وجُمَلٍ وانطباعاتٍ وأَفكارٍ وحكَمٍ وعباراتٍ متفرقة ومقطوعات نثرية كتبَها على قصاصات وعلَب فارغة وشرائح كرتونية في مراحل متفرقة ومتفاوتة في 20 سنة (بين 1913 و1935) خلال حياته القصيرة (47 سنة). ويرى مؤَرخو أَدبه أَنَّ هذا الكتاب قمةُ مؤَلفاته الثمانين بين ما أَصدره باسمه أَو بأَسماء له مستعارة، شعرًا وأَبحاثًا ومسرحًا وترجمات، صدرت في ترجمات عدة وطبعات عدة.
يَعتبر النقاد أَن “اللاطُمأْنينة” بين أَهم المؤَلفات العالمية في القرن العشرين، وعلى لائحة أَفضل 100 كتاب في جميع العصور، كما على لائحة أَفضل 50 كتابًا في تاريخ اللغة الـﭙـرتغالية، وهو يُعتبر بين “الكتُب المنارات”. ورأَى البعض في صاحبه “مجموعة شعراء في شاعر”.
الشاهد هنا أَن ﭘِـسْوَى Pessoaأَدخل على الـﭙـرتغالية كلمة جديدة (“اللاطُمأْنينة”) ليعني ما هو أَبعد من القلق والاضطراب وانشغال الفكر والبال، وهي حالات عادةً ما تعكس الوجه الآخَر من معاني الهدوء والطُمأْنينة والسعادة والفرح والرخاء والهناء.
ما يحملني إِلى استحضار هذا الكتاب: الحالة التي يمر بها لبنان اليوم من “لاطُمأْنينة” بين المواطنين، وهي حالةٌ رهيبةٌ أَبلغُ من القلق على الحاضر والمستقبل، ومن الاضطراب في فهْم ما يجري، وفي انشغال الفكر على انهيار الدولة بهذا الشكل الفاجع، وفي انشغال البال حيال فشل الحكْم والحاكم والحاكمين وتسلُّط المتحكمين والمستحكمين وعجْزهم (عمدًا أَو تقصيرًا) عن الدخول في حلولٍ عاجلة أَو آجلة لإِيجاد نافذة ضوء أَو فتحة نُور أَو لمعة أَمل.
المغزى هنا أَن اللاطُمأْنينة أَبلغ معنًى، لأَنها حالةٌ تطول. الــ”لا” النافية أَقسى تعبيرًا من بلاغة الطباق اللغوي. الكُره عكسُ الحُب، لكنه قد ينقضي. اللاحُب أَقسى، وقد يطول. القلق قد يكون عابرًا حين ينتفي سببه. اللاطُمـأْنينة أَقسى وأَطول وأَوجعُ مأْساويَّةً.
قوة اللفظة هي في النفي. حين كتب جورج نقاش في افتتاحية “لوريان” (10 آذار 1949): “لا يمكن أَن تقوم دولةٌ بـجمْع عَجْزَين. ونَفْيان لن يُشكِّلا وطنًا”، كان يرمي إِلى أَن الـ”لا” أَقوى نفْيًا من التضادّ والتعاكُس. من هنا أَن اللاطُمأْنينة تعني نفْي الطُمأْنينة، ونفْي الصفاء، ونفْي الهدوء، ونفْي راحة البال، ونفْي أَيِّ أَملٍ للمواطنين اليوم أَن يعيشوا في وطنٍ صحيحٍ سليمٍ معافًى يقوده هذا الطقم السياسي الحاليُّ الموبوء.
“اللاطُمأْنينة” أَصدقُ وأَوضحُ ما يختصر وضع اللبنانين اليوم.
وحسْبُ هذا التشخيص، لدقَّة توصيفه وبلاغته، أَن وُلِدَ من كلمةٍ اجترحها شاعر علَّى شكســﭙـير على جميع الدوَل. والشاعر سيَّدُ الرؤَى، ومبدعُ الاشتقاقات من ضمْن اللغة لا من دخيلها، وبكل احترامٍ دقيقٍ نُظُمَ اللغة، وخصوصًا خارجَ تنظير اللغويين القابعين داخل “كهوف” مجامع اللغة فاقدين كل صلاحية تجديدية إِبداعية.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib