منذ بدأْتُ قبل شهرَين أَنشُرُ مقالَـيَّ الأُسبوعيَّين (الثلثاء والجمعة) في موقع “النهار العربي” الذي أَخذْتُ أُحبُّه حُبِّيَ الجريدةَ الأُم، وأَتبسَّط فيه وسْع أَبحاثي -نُصوصًا وصُوَرًا توثيقية-، راح أَصدقاء يتساءَلون أَو يسائلونني عن حجم معلوماتٍ يزخَر بها نَصي في “النهار العربي”، غيرُه محدودًا في الــ”أَزرار” (صباح كلِّ سبت) حجمًا وعددَ كلمات.
وإِلى المعلومات تَنوُّعٌ لاحظوهُ في المواضيع بين رسم وموسيقى وأَدب وآثار وتاريخ وعلوم وما إِليها، واجدين في قلمي انتقالًا أَو انزياحًا إِلى إِقليم آخر، كأَنما صورةُ الشاعر النمطيةُ في بالهم أَن يبقى في إِقليم الشعر وما إِليه، أَو الأَدب وما فيه.
أَنتقل من الفرديّ الشخصيّ إِلى الجَماعي العامّ.
هذا التنميط يؤْذي صورة الشاعر ويحصره في بوتقة واحدة لا يخرج عنها، حتى إِذا فعَل عرَّض صورته للاهتزاز. هذا التأْطير يَسجن الشاعر في القصيدة، يُشوِّهه خَارجها، ويلغي أَن يكون ذا ثقافة، منوَّعَ الكتابات نَثرًا ينسجه من أَبجدية الشعر. فالشعر ليس في القصيدة فقط بل في كل ما يكتبه الشاعر نثرًا بتقْنية القصيدة.
الشاعر المثقَّف لا يخدم نثرَه فقط بل حتى شعرَه. القصيدة المثقَّفة تَرفع متلقِّيها أَرقى من أَن تكونَ مجرَّد عاطفةِ حب أَو غزل أَو وطنيات تنتهي بنهاية القصيدة فلا يبقى منها ومن الشاعر سوى شطحات فردية لا تنتقل إِلى قارئ أَو سامع قد يتساءَل: “إِذا كانت هذه حالتُه العشقية أَو الوطنية، فلماذا ينقُلُها إِلينا؟ وما دَخْلنا به؟ وما لنا ولَهُ ولَها”؟
القصيدة المثقَّفة تزيد لمسةً للمتلقِّي (صورةً، معنًى، تعبيرًا، فكرةً جديدة، تركيبًا شعريًّا، لغةً متجدِّدةً في قلب اللغة، …) وإِلَّا فهي قصيدةٌ باردة مسطَّحة لا يحفظها سامع ولا يحتفظ قارئ بها.
وكذا نثْرُ الشاعر: يجب أَلَّا يهبط عن شعره تركيبًا وصياغةً، حتى يظل القارئُ على ثقةٍ به ناثرًا كما شاعرًا. فالنثر فضيحةُ الشاعر: مِن الشعراء مَن إِذا كتبوا نثرًا سقطوا في البلادة، ومن الناثرين من إِذا “ارتكبوا” الشعر سقطوا في النظْم العروضي السخيف.
الشاعر المثقَّف يُغْني قَصيدته ونَثيرته معًا، فلا تعود المسافة هوَّةً بين شعره ونثره، ولا يعود “موضوع” القصيدة أَو النَثيرة متقوقعًا في بث عواطفه الشخصية، بل يمتد ثقافةً غَيرية إِلى عموم قرائه. وعندها يرى الناس في الشاعر حضورًا مغايرًا: حين يكتب نثرًا، يمنحُه عبيرًا شعريًّا لغويًّا يمضي صُعُدًا إِلى فضاءَات تُوسِّع اللغة وتُخصبُها عباراتٍ، صُورًا، تشابيه، استعارات، محسّنات، وابتكارات من قلب اللغة ونُظُمِها فتقوّيها، لا طافرة عنها فتُضعفها.
الكلماتُ أَمام الناثر العاديّ “أَدوات” يستعملها للإِبلاغ. الكلماتُ أَمام الشاعر زنابق يقطفها للإِمتاع. وبين الإِبلاغ والإِمتاع يَبان الفرق في النص بين أَن يكتبَه ناثر عاديّ، أَو أَن يكتبَه شاعر يجعله، أَيًّا يكُن موضوعُه، متعةً ثقافيةً مفيدة.
هـنـري زغـيـب