كان العيد، ميلادًا أَو عامًا جديدًا، وكانت معه طقوسٌ وعاداتٌ، على جبينها بطاقاتٌ بريديةٌ ورسائلُ متأَنّيةٌ متأَنقةٌ، وكنا نقرأُ في خطوطها وجوهَ كاتبيها، ونسمعُ في كلماتها أَصواتهم، فيكون العيدُ لقاءً نابضًا عبر البريد، وزيارةً خاصةً تُكلِّف أَصحابها وقتًا لكتابة موَجَّهة خاصة تعبِّر عن مشاعرهم حيالنا، ولو انها أَحيانًا تتوسَّل كلماتٍ مأْلوفةً وعباراتٍ تقليدية يستعيرها الناس لعجزهم عن ابتكار جديدٍ غير مأْلوف.
وغالبًا ما كانت تلك البطاقات والرسائل تبقى في محفوظاتنا، أَو بين أَوراقنا الخاصة، شاهدةً على وفاء أَصحابها لنا، نعود إِليها لاستذكارٍ أَو ذكرى، فنجدها ما زالت عابقة بالحنين ذاتِه كما كان حين خطها أَصحابُها وكرَّسوا وقتًا لكتابتها وإِرسالها بريديًّا.
كان ذلك من زمان… أَو من بعض زمان.
اليوم، تغيَّر العصر فغيَّر تقاليد المعايدات وطقوسَها. بات ساعي البريد عاطلًا عن إِرسال البطاقات والرسائل، وتولَّت الأَمرَ وسائلُ مُـمَكْنَنَة ووسائطُ حديثة وتطبيقات إِلكترونية، وتعهَّدت شبكة الإِنترنت شَبْك العالم كلِّه من أَقصى بحاره إِلى أَدنى روابيه. وباتت السرعة في الإِيصال تسابق سرعة الضوء، وانتهى العهدُ السلحفاتي البطيْء. وما كان يستغرق أَيامًا ليصِل بات يصل في رفَّة جفْن أَو ومضة تفكير، وحلَّت مكانَ ورقة الرسالة أَو كرتونة البطاقة، شاشةٌ تبدأُ من قبضة اليد في الهاتف المحمول وتنتهي في شاشة الكومـﭙـيوتر، محمولِه أَو لوحِه الذكي أَو جهازِه الثابت. وما كان يُحفَظُ بين أَوراق الذكريات، بات يُمحى بكبسة زر، أَو يبقى في ذاكرة الشاشة، مهدَّدًا بضياعه في غفْلة غلطةٍ أَو حادثةٍ ميكانيكية، فيغيب لا إِلى استرجاع.
وكما تَـمَكْنَنَت التمنّيات والمعايدات، كذا تَـمَكْنَنَت الأَفكار وتَكَسْلَنَت الأَيدي، فباتت المعايدة إِرسالَ صورة مكَرَّرة مستهلَكة أَو رمز عام أَو زهرة مصورة أَو كفٍ مرسومة أَو إِصبعٍ مرفوعة أَو عبارات جاهزة بليدة عامة تُرسل إِلى جميع الناس باردةً غيرَ شخصية ولا خاصة ولا حتى حميمة، يستعملها جميع الناس لجميع الناس فتصل باهتةَ الشكل ولو جميلة، حياديةَ المعنى ولو معبِّرة، ولم يعُد المرسل يتكلَّف جهد كتابةٍ ولا عناءَ تفكير ولا وقتًا ليجد عبارات خاصة، فعمَّ الكسلُ الكرة الأَرضية واصطفَّ معظم الناس في إِيقاع هذا الكسل، حتى فقدَت هذه المعايدات رونقها وخصوصيتها وباتت مصنَّعة اصطناعية صناعية بحتة، بعدما ولَّدت ميكانيكيةَ صناعةِ وضعِ تلك الرموز والصوَر والأَزهار في متناول الجميع، وأَوجدَت فرص عمل إِضافية ومِهَنًا جديدةً للعاملين فنِّيًّا وتقْنيًّا في هذا القطاع، كأَننا بتنا في كوكبٍ آخرَ غيرِ الذي كنا نعيش عليه، بما في تلك الوسائل والوسائط من “خفايا سرية” قد لا ندرك ماذا وراء انتشارها بهذا الشكل الواسع.
تغيَّر العصر، تغيَّرت الحياة الاجتماعية، سخرت التكنولوجيا السرعة على حساب الأَفكار، باتت الرسالة خاضعةً للوسيلة، باتت اللحظات الحميمية مُـمَكْنَنَة، والعواطف الإِنسانية مُـمَكْنَنَة، والكتابة الخاصة مُـمَكْنَنَة، وبات التعبير عن المعايدة صورةً صناعية هي ذاتها يرسلها جميع الناس مستسهلين إِلى جميع الناس فيرسلها الناس المستسهلون هي ذاتها من جديد إِلى سائر الناس، بدون أَي لمسة خاصة أَو شخصية.
ومتى فقدَت المعايدة خصوصيَّتها، فقدَت حرارتها. وما أَرخص معايدات أَو تمنيات لا يتكلَّف أَصحابها فِلْذَةً من وقتٍ ليَكتبوا ولو كلماتٍ ضئيلةً يكون فيها صوتُهم أَو وجهُهُم أَو أَيُّ ما يوحي بلمسةٍ شخصيةٍ في هذه المعايدات الاصطناعية الكسولة.
هـنـري زغـيـب