كثيرًا ما خاطَبْتُكُم من هذا المنبر الإِذاعي أَو من منبر صحافي، مُحرِّضًا إِياكم أَلَّا تكونوا حَبَّةً رَخْوةً في مسبحة السياسيين، ولا حطبةً عمياءَ في مواقدهم، ولا أُلعوبةً صمَّاءَ في أَيديهم. وكان أَصدقاء وقرَّاء يلومونني على تفاؤُلي، معتبرين أَنْ لا أَمل منكم في تغيير قناعاتكم، وأَنْ لنْ تتغيَّر نِظرتُكم إِلى حُماتِكم الزعماء السياسيين، وإِلى أَحزابٍ يَهتم كلٌّ منها بأَن يُنشئَ في صفوفه “مصلحة الطلاب”، وأَن يُعيِّن فيه شبانًا وصبايا على بكارةِ خبْرةٍ وطهارةِ طويةٍ، يَشحنُهم بإِيديولوجيا الحزب ومبادئه ومَراميه وأَهدافه القريبة والبعيدة. وهذا حقٌّ طبيعيٌّ لكل حزب في أَيِّ بلد، سعيًا إِلى استقطابِ عناصرَ فتيةٍ ودمٍ جديدٍ يؤَمِّن استمرارية الحزب لدى الأَجيال الجديدة.
وبرغم اتِّهام البعض إِياكم بالجيل المائع اللاهي بالـ”واتسآپ” وسائر أُسرة الـ”سوشِل ميديا” وظواهرها ومظاهرها ومخاطرها على رصانتكم وتحصيلِكم الأَكاديمي – ولم أَكُن بعيدًا فترتَئذٍ عن هذا الاتِّهام – بقيتُ على تفاؤُلي وإِيماني بكم قوةَ تغيير.
وكان أَنْ سطعَت شمسُ الثورة في ذاك التشرين اللبناني المبارَك، وانهمَر الآلاف إِلى الشوارع والساحات لخلْع كراسي السياسيين الفاسدين، وسطعَ معه الأَمل بأَن تكونوا فعلًا قوةَ التغيير المأْمول، خصوصًا بعدما جميعُ طبقات المواطنين – فئاتٍ عمريةً ومناطقيةً ومذهبيةً – تفجَّرَت غضبًا شعبيًّا راح يتزايد ويتنامى رفضًا وجوهَ طبقةٍ سياسيةٍ حاكمةٍ متحكمةٍ بالبلاد منذ عقود. من يومها عاد الأَمل يرنو إِليكم قوةَ تغييرٍ تنتصر لأَهاليكم المظلومين المقهورين المسحوقين بإِجراءات ومفاجآت وإِلزامات جعلَت المواطنين أَجمعين يفقِدون نهائيًا ثقتَهم العتيقة بأَفواج السياسيين والحاكمين والحزبيين، ويأْنفون حتى من سماعِ أَسمائهم الهشَّة ومشاهدةِ وجوههم النَكِدة على الشاشات.
مع ذلك، ظلَّت الشُكوك تتأَرجح بين الـ”لن يَمكنَكم؟” والـ”ربما تُقْمَعون”، حتى بدأَت تظهر في جامعاتكم نتائجُ انتخاباتكم الطلَّابية، وفيها بيَّنْتُم – تنفيذًا لا تنظيرًا – كيف خلَعْتُم هيبة السيطرة السياسية والهيمنة الحزبية، وبأَكثريةٍ بيِّنةٍ وأَغلبيةٍ ناصعةٍ فاز منكم مَن لم تصنِّفْهُ وسائلُ الإعلام إِعلانَ فوزِ هذا الحزبِ ساحقًا في هذه الكليات، أَو ذاك الحزبِ ماحقًا في كليات أُخرى، بل شَهَرت وسائل الإِعلام، في ارتياح عامٍّ عامرٍ، فوزَكم مستقلِّين غيرَ حزبيين بمقاعدَ غيرِ مسبوقةٍ في جداول الانتخابات الطلابية.
لن أُطيلَ أَكثر. الباقي صدَر وانتشَر. لكنني أَتوقفُ، رافعًا فرحي بأَن فوزَكم – علمانيين مستقلِّين غيرَ حزبيين ولا مُؤَدلَجين ولا منتمين ولا مُنضوين -، هو فوزُ الأَمل اللبناني بالعودة إِلى جوهر لبنان اللبناني، فوزُ الجيل الجديد الواعد بأَن يكونَ البديلَ الرافضَ هيمنةَ سياسيين وحزبيين، واحتكارَهم مفاصل الدولة، تناتشوا خيراتِها حتى نَهَشوها فآلت إِلى أَسوإِ ما يُمكن أَن يُدَهْوِر به البلادَ سياسيون بلا ضمير ولا وازع.
أَملُنا بكم كبير أَنكم قوةُ التغيير، وأَن فوزَكُم لن يكونَ جامعيًّا وحسْب، بل كرةَ ثلجٍ تكبَر حجمًا وتكبُر عزمًا وثقةً وإِيمانًا بأَن الغدَ الآتي إِلى لبنان آتٍ بفجر جديد وعهد جديد وعصر جديد لا يصل فيه إِلى الحُكْم إِلَّا الأَنقياءُ من الإِيديولوجيات المزوَّرة أَو المحوَّرة أَو المستورَدَة، الرافضون أَن يكونوا حبَّةً في مسبحة نظامٍ فاسد، أَو حطْبةً في موقدة حزب، أَو أُلعوبةً في يد حُكَّام هُولاكيين بيلاطُسيّين نَيرونيين.
عندئذٍ تُثْبِتون أَنْ لن يستاهلَ الحُكْمَ إِلَّا الأَحرارُ المؤْمنون بوطنٍ موحَّدِ المذاهب والمناطق والطوائف على إِيمانٍ واحدٍ أَوحدَ وحيدٍ بانتماءٍ ساطعٍ إِلى … لبنان اللبناني.
هـنـري زغـيـب