ما إِن أَعلنَت الحكومة البريطانية إِجراءات الإِقفال قبل أَيام، بسبب موجة الكوڤـيد الجديدة، حتى أَصدر المجلس البلدي في مدينة ساوثامـﭙـتون (110 كلم جنوبي غربي لندن) بيانًا مفصَّلًا بدوام المكتبات في المدينة ومناوباتها يوميًّا وساعات الدوام قبل الظهر وبعده، تمامًا كما تفعل الصيدليات عادةً في مناوباتها.
وما دمنا في ساوثامـﭙـتون قرأْتُ أَن صاحب مكتبة فيها أَعلن على صفحته أَنه ينوءُ من إِيجارها وسينتقل إِلى ناحية أُخرى في المدينة بإِيجار أَقلّ. بعد يومين فوجئَ بأَعداد من روَّاد مكتبته يتجمَّعون أَمامها عارضين مساعدتَه على الانتقال، وشكَّلوا سلسلة بشرية من نحو 500 متر، أَخذ كلٌّ منهم يتناول كدسة كتب ويناولها إِلى الآخر وهذا إِلى مَن وراءَه، حتى نقلوا جميع محتويات المكتبة بدون عناء ولا أُجرة. والسبب؟ حبُّهم المكتبة التي باتت محطتهم اليومية حتى أَدمنوها وقاموا بهذه البادرة تجاهها كي يظلُّوا يرتادونها في مقرِّها الجديد.
أَنتقل إِلى نيس في فرنسا: بعد صدور قرار الإِقفال قبل أَيام لمواجهة الموجة الكورونية الثانية، اعترض بعض المؤَلفين على إِقفال المكتبات لأَن الدولة اعتبرتْها “ليست قطاعًا أَساسيًّا”. وأَعلنت السيدة فلورانس كامِرْمان أَنها إِن أَقفلَت أَبوابها فستحرم مدينة نيس من مكتبتها الخاصة الوحيدة. وإِذ دفعَت غرامتَها في الموجة الكورونية الأُولى 135 يورو، صرح الكاتب ديديـيه ڤان كوڤْـلارت (جائزة غونكور 1994، وجائزة الأَكاديميا الفرنسية للمسرح 1997): “أَنا أَكتب لأُشارك القراء بكتاباتي، والمكتبة طريقُهم الوحيد إِليّ، فكيف تَسُدُّها الدولة؟ نحن مفيدون مجتمعَنا. لنا الحقُّ بالحياة، وللقراء الحقُّ بالوصول إِلى مؤَلفاتنا”. واعتبَر الكاتب أَلكسندر جاردان أَن “بلجيكا وسويسرا لم تقفلا المكتبات، فلماذا فرنسا تُقفلها”؟ وقال: “الحكومة موقَّتة، والثقافة الفرنسية دائمة، وهي ليست من شأْن الدولة”. وأَعلن كتَّاب آخرون أَنهم يعترضون على إِقفال المكتبات، ومستعدُّون لدفع غراماتها طيلة الحجْر. ورفع مكتبيون وناشرون بيانات اعتراض لأَن فترة الميلاد تردُّ عليهم رُبع أَرباحهم السنوية، ما دفع وزارة الثقافة إِلى اجتماع طارئ لتعديل تدابير الإِقفال في هذا القطاع.
هذا الأَمر هزَّ الأَوساط الفرنسية الثقافية التي تعتبر المكتبة مركزًا حضاريًّا مُشعًّا لا يجوز إِطفاؤُه. وهو أَساس في هالة فرنسا وعراقتها، كما حال مكتبة غالينياني التي تتباهى بتأْسيسها في ﭘـاريس قبل 220 سنة، وهي “أَقدم مكتبة للُّغة الإِنكليزية في العالم”، يُعزى بدؤُها النشرَ منذ سنة 1520حين نشرَت سيمونا غالينياني في البندقية أَول كتابَ للُّغة اللاتينية، وسنة 1597 كتابَ “جغرافيا بطليموس”. ثم انتقل جيوڤـاني أَنطونيو غالينياني إِلى ﭘـاريس سنة 1800 ليؤَسس فيها عهد المكتبة الجديد، ويورثَها أَبناءَه فأَحفاده الذين حافظوا عليها حتى اليوم.
إِنها المكتبة إِذًا: واحةُ ثقافة لا مجرد مكان لبيع الكتب بل محجَّة ضرورية لروَّادها، بدونها يتخلخل إِيقاعُهم اليومي.
وانطلاقًا من مقولة “مَن فَتَح مدرسة أَقفَل سجنًا” يمكن القولُ إِنَّ من أَقفل مكتبةً أَطفأَ شمسَ ثقافةٍ ولو إِلى حين. ومَن يحتمل انطفاءَ الشمس ولو إِلى حين؟
هـنـري زغـيـب