“نقطة على الحرف”- الحلقة 1489
أَخيرًا… اكتَشفُوا مُسبِّبَ انفجار المرفأ
“صوت كلّ لبنان” – الأَحد 8 تشرين الثاني 2020

“رح نحكي قصِّة ضيعَه، لا القصَّه صحيحه ولا الضيعه موجوده، بس بِلَيْلِه هوِّي وضجران، خرتَش إِنسان عَ ورقَه، صارت القصَّه وعمْرِت الضيعه”.

بهذا المطلع يطالعنا من ظلال الأَرز الخالد صوتُ فيروز الخالد في المسرحية الرحبانية الخالدة “بيَّاع الخواتم” قبل 57 سنة (1963).

وتروح هذه الضيعة تصاب بتخريبٍ من مجهولٍ يُدعى “راجح” تلَطَّى خلْفه المخرِّبون كي تتوجَّه إِليه التُهَم ويَـخْلُصَ المخرِّبون.

ولكن يبدو، عندنا في لبنان، أَن هذا الــ”راجح” المجهول ليس شخصيةً مسرحية افتراضية بل حقيقةٌ دامغة تطالعنا كل يوم.

هكذا نَشهَد البلد ينهار بنا، ولا مسؤُولَ يستقيل، لا مسؤُولَ يُحاسَب، لا مسؤُولَ يُتَّهَم، لا مسؤُولَ يقفُ في قوس محكمة.

وهكذا نتعايش يوميًا بين الـ”كنتُ أَعلَم” والـ”ما كنتُ أَعلَم”، بين الـ”مش مسؤُوليَّتي” والـ”ليس هذا من صلاحياتي”، بين “أَنا حوَّلتُ المعاملة”، و”أَنا أَرسلتُ تقريرًا إِلى الجهة المعنيَّة”، بين “أَنا وجَّهتُ كتابًا إِلى مجلس الوزراء”، و”أَنا أُطالب بالتحقيق الشفَّاف”، و”أَنا لستُ الجهة المخوَّلة”، بين وزير ينفُض يده ويتَّهم وزارة أُخرى وهذه الأُخرى ترمي المسؤُولية على وزارة ثالثة، بين المدارس تَفتح جزئيًّا أَو حضوريًّا أَو بُعاديًّا فتَدوخ المدارس ويدوخ الأَهل، ويقوى الدُوار وتتخلخل الأَدوار، بين مَن يتنصَّل ومَن يتهرَّب،… ومن فضيحة إِلى فضيحة: يقعُ ما يقَع، ويسقُط من يسقُط، ويموتُ من يموت، ويتهجَّرُ مَن يتهجَّر، ويهاجرُ مَن يهاجر، … وجميعهم ضحايا دولةٍ بلا حراك، مصَنَّمةٍ مثل “خيال الكروم” أَو “فزاعة التين” أَو “رجل القش المزيَّف وقبعته المزيفة”، حتى تضيعَ الدولة ويضيعَ المواطن ويضيعَ الوطن بين مسؤُولٍ غيرِ مسؤُول تجاه شعبه، ومواطنٍ موجودٍ غيرِ موجودٍ في حساب دولته.

ويكونُ أَسهلَ التخريجات حكمُ “القضاء والقدر”، أَو في أَقصى عبقريتها تخريجةُ الإِهمال: سوءُ تخزين القمح في المدينة الرياضية والكرنتينا، تكدُّسُ النفايات في الشوارع، اكتشافُ صفقة الكومبيوتر في المخزن، الانهيارُ المالي والاقتصادي، فواجعُ القطاع السياحي والصناعي والتجاري، تخمةُ المستشفيات، تقصيرُ البلديات في أَداء واجبها، تجاذُب ملفِّ الكهرباء ومعاملِ توليد الطاقة، الحقُّ على المدير العام الذي يَرمي التهمةَ على مرؤُوسيه المهمِلين،… وتروح طابةُ المسؤُولية تَنُطُّ من واحدٍ إِلى واحدٍ حتى تَكرجَ في النهاية وحدَها على الأَرض ولا يظهرَ مسؤُولًا أَيُّ مسؤُول سوى… راجح الذي، بنتيجة التحقيق المحلي البالغ الدِّقة والشفافية، ثَبُتَ أَنه هو وراء انفجار المرفأ.

نمضي… نمضي في الانهيار، ولا ندري مَن نُخاطب، مَن نُسائِل، مَن نتَّهم كي نَفْهم: أَهو سوءُ التخزين أَم سمسراتُ الصفقات؟ غيابُ المراسيم أَم ضياعُ القرارات؟ جمعيةُ المصارف أَم المصرف المركزي أَم وزارة المالية؟ إِلى مَن يَلجأُ الذين باتوا بلا أَكل بلا نوم بلا بيوت، أَو في بيوتٍ بلا زجاج ولا نوافذ ولا أَبواب؟ وإِلى مَن وإِلى أَين تسرَّبَت الهبات التي طافت علينا سمكًا وقمحًا وطحينًا ونفطًا ثم تاهت في متاهاتٍ تَبحث عن راجح المجهول الذي خطَفَها ليحقِّق فيها ربا سَمسرات؟

لعلَّ أَفضلَ ما يُنقذ بلادَنا اليوم: تشكيلُ حكومةٍ بلا حقائب، يتولَّاها وزراء محصَّنون بــ”لامسؤُولية” وطنية، يكونون أَصنامًا أَحياء، يكونون “خيالات كروم” بلا سُلْطة ولا فاعلية، يكونون فقط أَشباحًا متحركة، يكونون معيَّنين لإِرضاء أَحزابهم وطوائفهم ومذاهبهم وتياراتهم وتكتُّلاتهم، يكونون أَبطالًا يَتَغَنْدرون في اجتماعات عقيمة وتحركات عديمة وتصاريح ذميمة، ولا يكونون مسؤُولين عن أَيِّ ما يحصل مهما حصل. هكذا يرتاحون من تبرير “كنتُ أَعلم” و”هذا ليس من صلاحياتي”.

في نهاية مسرحية “بيَّاع الخواتم”، تختُم ريما: “هيدي كانت قصِّة ضيعَه، لا القصَّه صحيحه، ولا الضيعَه موجودِه”.

أَما في نهاية مسرحية بيَّاعي الأَوهام والأَكاذيب عندنا، فتختُم صرخة الناس: “هيدي هيي قصِّة ضيعَه. الضيعَه موجودِه، بس… هيبِة الدوله ما عادت موجودِه”.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib