الحوار: تلـڤـزيوني فرنسي، مساء الأَربعاء الماضي من هذا الأسبوع، بإِدارة مذيعةٍ من القناة الثانية (France 2) ومذيعٍ من القناة الأُولى (TF1)، متباعِدَين كورونيًّا، وبينهما ضيفُ الحوار: الرئيس الفرنسي.
خلال 40 دقيقة، بِنَبرةٍ وُثقى، بصوتٍ ثابت، بحماسةٍ الشابِّ الأَربعيني المسؤُول عن أُمَّةٍ عُظمى وشعبٍ يتطلَّع إِلى ما يهيِّئُ له رئيسُهُ من تدابيرَ وقائيةٍ ضدَّ هذه الجائحة الكورونية المتوحشة، راح ماكرون يخاطب شعبَه مباشرةً، من دون ورقةٍ أَمامه يَقرأُ فيها، بدون خطابٍ معلَّبٍ سلفًا يبدأُ بــ”أَيُّها الفرنسيون”، بكلامٍ بسيطٍ غيرِ متكلِّف فُصحاه الفرنسية، بحجَّةٍ مقْنعةٍ مبسَّطة، شرحَ للشعب سببَ الإِجراء الأَخير بمنْع التجوُّل بين التاسعة ليلًا والسادسة صباحًا، طوال ستة أَسابيع، في سِتِّ مُدُن واسعة ذاتِ عشرين مليون نسمة من ﭘـاريس الكبرى، تجنُّبًا كلَّ اختلاطٍ ليلي في حفلاتٍ وأَعيادٍ ومناسباتٍ جالبةٍ نقْلَ الجرثومة، وأَكَّد على العمل العادي نهارًا مع احترامٍ صارمٍ تعليماتِ التباعُد الشخصي واتِّباعِ التدابير الوقائية.
وكي لا يَحرمَ العاملين في القطاعات السياحية، عوَّضَ عليهم بمبلغٍ لائقِ يُعينُهم على تجاوُز الإِقفال في الستة الأَسابيع المقبلة.
مرَّتَين ردَّد الرئيسُ الفرنسي عبارة “بلد الأَنوار وﭘـاستور” دلالةً على مجد فرنسا الثقافي النهضوي والعلْمي، وكرَّر أَيضًا عبارةً لافتة: “يجب أَن نعرف كيف نكونُ أُمَّةً واحدةً لا أَفرادًا مُبَعثَرين في مجتمعات متفرقة”.
كان المذيعَان يتَوجَّهان إِليه بعبارة “مسْيو ماكرون”، لا “فخامة الرئيس” ولا “صاحب الفخامة”، ولا “فخامتُك تقول”، وما إِليها من عباراتٍ وأَلقابٍ عثمانية بائسةٍ بائدةٍ متخلِّفة.
هكذا إِيمانويل ماكرون خاطب شعبَه مباشرةً، وأَعطى توجيهاتٍ واضحةً لِلَجْم انتشار الوباء. لم يقرأْ خطابًا باردًا. لم يُخاطبْ شعبه بالتوِيتِر. لم يوعز إِلى الدائرة الإِعلامية في قصر الإِيليزيه لتُصدِرَ بيانًا باسمه. لم يكلِّفْ أَزلامه في البلاط الرئاسي كي يَشرحوا ويُبَرروا ويُفَسِّروا.
في ختام الحوار قال: “هذه توجيهاتي الواضحة إِلى أَهلنا ومُواطنينا، وغدًا يعقد رئيسُ الحكومة مؤْتمرًا صحافيًّا لشرح التفاصيل، ومعه الوزراءُ المعنيُّون”. قالها بحزم وتصميم، أَوكل الأَمر إِلى المعنيِّين في الحكم، وانصرف إِلى شُغْله الرئاسي. لم يَقُل “دولة الرئيس” ولا قال “معالي الوزراء”. ففي ذهْن هذا الشابِّ الأَربعينيِّ أَنه خادمُ شعبه، ومعه خادمُ شعبٍ آخَرُ برتبة رئيس حكومة، ومعهما فريقُ عملٍ من خُدَّام الشعب آخَرين برتبة وزراء.
وهذا ما حصل فعلًا: نهار الخميس، تلقَّى الفرنسيُّون وسكَّانُ فْرنسا ما يجب أَن يعرفوه لاتِّقاء تَفَشِّي الوباء. واطمأَنُّوا إِلى تدابيرِ دولتهم من رأْس الدولة مباشرةً، لا من مستشاريه، ولا من تويترات الوزراء، وعبقرية مستشاريهم بتَغْريداتِ شُؤْم سخيفة.
إِشارةٌ أَخيرة: صباحَ الجمعة، وبإِيعازٍ من وزير العدل الفْرنسي، دخل محقِّقُون وزارةَ الصحة يستَجْوِبُون الوزيرَ وموظفين، بعد الإِخبار عن إِهمالٍ ثبُتَ حصولُه، وتقصيرٍ تلَكُّؤِيٍّ في إِدارة الأَمن الصحي سبَّب في البلاد رقمًا عاليًا من الإِصابات.
هذا رئيسٌ يحترمُ شعبَه.
هذا رئيسٌ يحترمُ أُمَّتَه العظيمة ويعرف إِرثها التاريخي.
هذا رئيسٌ لا يستشهد بأَسلافٍ سياسيين، بل يعتزُّ بأَنه من “بلاد الأَنوار”، ويستشهد بِعَلَمٍ من عباقرة العلْم في بلاده: لويس ﭘـاستور.
هنري زغيب