هَجُّوا، هَجَروا، فهاجَروا.
حَزموا يأْسهم، وهاجَروا.
منذ منتصف القرن التاسع عشر وهُم يُهاجِرون، سِـمتُهم هُجرةُ انتقالهم من أَرضهم الأُم إِلى أَراضي الآخرين.
بحرًا هاجروا، وبَـــرًّا، هَرَبًا من ظُلم واستبداد وسَلْطَنة أَوصلَت كثيرين منهم إِلى “سَفَر بَرلِك”.
وكانت الحرب العالمية الأُولى، وكان جوعٌ وكان جَراد، فهاجروا. وكانت الحربُ الثانية وكان ضيقٌ في الأُفُق، فهاجروا. وكانت الحرب الآخَرينية على أَرض لبنان 1975، فهاجروا. ومنذئذٍ وهُم يُهاجرون هربًا من الحرب وأُمراء الحرب المتحكِّمين بالبلاد. وجوًّا يُهاجرون في السنوات الأَخيرة، حاملين جوازات السفر، وعليها تأْشيرات دخولٍ إِلى أَيِّ وطن، بعدما شرَّدَهم أَولياءُ دولتهم البطَّاشون، حارمينَهم لذةَ العيش في الوطن.
من دولتهم هاجروا لا من وطنهم. هاجروا من ظروفٍ ظالمة، ومن قهر نظام فاشلٍ فاشيّ. وبقي وطنُهم في قلوبهم حتى في ذيَّالك البعيد.
سوى أَن شبان الهجرة الحالية في السنوات الأخيرة، اصطدموا بالآمال المغلولة والأَحلام المقتُولة، وكفروا بـوطنٍ أَوصلتْه دولتُهم إِلى الجهنم. وها هم جَوًّا يهاجرون، لا يلتفتون عند باب الطائرة حتى ولا كي يَـمُدُّوا عيونَهم مرةً أَخيرةً على أَرض وطنٍ وُلِدوا فيه ويغادرونه بلا أَسف، بلا نَدَم، بلا نيَّةٍ للرجوع إِليه، وُجهَتُهُم آفاقُ دنيا قد لا تكون رحيبة، لكنها أَفضلُ من أُفقٍ في وطنهم مبتورٍ بلا رحمة.
وبحرًا صاروا يهاجرون، في مراكب الموت. وما أَقسى، في أَهوال اللُجَج الثائرة، أَن يكون الموت رحيمًا أَكثرَ من الموت جُوعًا وذُلًّا وقهرًا في لُـجَج العذاب على أَرض الوطن.
في رسْمٍ بيانـيٍّ وصلَني قبل يومين، عن هُجرة الأَجيال الشابة في الدول العربية، تَبيَّن أَنَّ أَفدَحَ هُجرةٍ للجيل الشابّ هي في لبنان بنسبة 80 %من شبابنا وصبايانا. إِنها هُجرةٌ من الذلّ إِلى أَوطان غريبةٍ ارتَضوا أَن يعيشوا فيها بلا حنان، هُجرةٌ من القهر إِلى مجتمعات غريبة يعيشون فيها غرباء، هجرةٌ من هُويتهم إِلى هُويات غريبةٍ يبحثون عنها. قاسيةٌ هذه الغربة الـمشَرَّدة، كما ذاك المشهد الروائي خطَّتْه صبيةٌ مُهاجرة في رواية “بُكْرا كِيف كِيف” للكاتبة الفرنسية الجزائرية فايزة عبدالحميد غُوِيْن (أَصدرَتْها سنة 2004 وصدَرَت لها حتى اليوم 26 ترجمة إِلى لغات عالمية، وبلغَت مبيعاتُها في فْرنسا وحدها 400 أَلف نسخة). وفيها الصبية دُوريا، ابنةُ الخمسة عشر عامًا، تَروي يومياتها الـمُرَّة وأُفْقَها المسدود وغُربتَها القاسية، حتى غدَت أَيامُها تتشابَهُ ولا جديدَ واعدًا ينتظرُها. هكذا شباب لبنان حاليًّا: يُهاجرون من أَيامهم المتشابهةِ الرَتابة في وطنهم، إِلى مركب في البحر يهرعون، إِلى جناح طائرة يهرعون، إِيمانُهُم بوطنهم فاقدون، إِلى المجهول يرحلون، من “بُكرا كِيفْ كِيفْ” يهربون (والعبارة بالمحكية الجزائرية تعني بمحكيتنا اللبنانية “كلُّو متل بعضو”، أَي “بُكْرا متل اليوم ومتل مبارح وأَوَّل مبارح”.
ومتى يَبلغ الأَمر بشباب الوطن أَن يكون “بُكْرا كِيفْ كِيفْ”، واليوم “كِيفْ كِيفْ” مثلما أَمس “كِيفْ كِيفْ”، لا يَعود أَمامهم إِلَّا هُجرة الوطن غيرَ آسفين، في عيونهم تقزَّزَ البُعاد عن أَهل وأَحبَّة، وعلى أَلسنتِهم لعنةٌ نهائيةٌ على سياسيين في الوطن ظَلُّوا ينهشون خيراتِه في عُهْر الفْسق والفَساد حتى جَعلوا أَيامه مُسَطَّحةً “كِيفْ كِيفْ”.
ويا تَعْسَ وطنٍ تُهاجر أَدمغتُه الشابة تاركةً إِياهُ لـزُمرة أَزلامٍ ومحاسيبَ يَنحنْون أَمام زعمائهم بِغَباءٍ وبَبَّغاويةٍ، غير واعينَ كيف صار مُستقبلُ الوطن مُسَطَّحًا كتفكير زعمائه، مُقْفَلًا كعُقول زعمائه، أَسوَد كنِيَّاتِ زعمائه، صائرًا إِلى مستقبلٍ مجهولٍ كلُّ ما يظهر منه أَنه… “بُكْرا كِيفْ كِيفْ”.
هـنـري زغـيـب