أَتوغَّل إِليه عميقًا كي أَعرفَه أَكثر: ما سرُّهُ، هذا الوطن الذي تلتَفت إِليه اليوم أُمَمُ العالم بهذا الإِيمان؟
إِذا جذوعُه اليوم تضطرب بفعل الخيانات، وأَغصانُه ترتعش بفعل الإِنكار، فليس لي إِذًا سوى جُذُوره أَتوغَّل إِليها، والجذورُ مسكنها التاريخ الذي لا يولد دونه نورُ الآتي، ومنه نستمد القوة والصلابة والإِيمان.
ماذا أَرى في الجذور؟ أَرى لبنان نورًا منذ فجر التاريخ، يحمل منذئذٍ اسمه الحالي حين لم تكُن أَية دولة في محيطه تحمل اسمها الحالي.
ها نحن، بين كثير اذِّكار، في القرن السادس (ق.م.) نقرأُ من حزقيال: “أُشبِّهكَ في عظَمتك ]يا فرعون[ بأَرزةٍ في لبنان… عاليةٍ، رأْسُها بين الغيوم… في أَغصانها عَشَّشَت طيورُ السماء… في ظلِّها سكَنَت جميع الأُمم العظيمة فصارت جميلةً في عظَمتها… الأَرزة في جنَّة الله، وكلُّ شجرٍ في الجنة لم تُـماثلْها حسْنًا حتى غارت منها الأَشجار في جنة الله” (الإِصحاح 31، من 2 إِلى 9).
ومن القرن الخامس (ق.م.) أَقرأُ للشاعر اليوناني نُــنُّـوز عن بيروت: “إِنها مدينةُ بيرُوِيْه، سحرُ حياة الإِنسان، مَرفأُ كلِّ حب، راسخةٌ فوق البحر… موجودةٌ هنا منذ الزمن الأَول، مولودةٌ مع الأَرض معاصرةً إِياها”.
ومن الأَب هنري لامنس أَقرأُ: “دَمَّر الزلزال بيروت، أَجمل عيون فينيقيا، فتعرَّت من جمالها ولم يَبقَ سوى الحطام، وانهدَمَت عماراتُـها الجميلة حتى على مَن جاؤُوا من الخارج للالتحاق بمدرسة الحقوق فيها، فانتقَلَت المدرسة إِلى صيدا في انتظار إِعادة تعمير بيروت” (“تسريح الأَبصار”- بيروت 1903).
ومن كتاب “بيريت” لــيُوهان ستراوخ (1662): “بوصول الأَمبرطور أَدريانوس إِلى فينيقيا، نَزع عن أَنطاكية لقب “حاضرة فينيقيا” وجعل صُوْر “حاضرة المدن”.
ومن المؤَرخ الفرنسي پـول موران: “جاء زمن كانت فيه صيدا وصُوْر كلَّ تاريخ العالم” (“المتوسط بحر المفاجآت” – پـاريس 1938).
ومن الدپـلوماسي والمؤَرخ الفرنسي غبريال هانوتو: “إِن لم تكُن جبال لبنان هي الأَعلى في الجغرافيا فهي بين أَعلى قمم التاريخ الكَوني” (مقدمته لكتاب “التقاليد الفرنسية في لبنان” – 1918).
أَقرأُ… أًقراُ في جُذُور لبنان، ولا تَنضب هذه الشهاداتُ/الكنوز، جميعُها مِن غير لبنانيين قالُوها في وطني، لبنان الخالد بتاريخه الساطع وأَعلامٍ مباركين أَسَّسوا مجدَه على أَرضه الأُمّ، ومنها انطلقوا إِلى مصر فأَسهموا في نهضتها، وإِلى أَميركا فأَسسوا فيها نهضةَ عَصر، وما زالوا في العالم كوكبةَ مبدعين يعتزُّون بوطنِهم الآب الذي لا يُقاس بمساحته الضئيلة بل بإِشعاع أَبنائِه في الدنيا لأَنه ذو مساحةِ حريةٍ، ومساحةُ الحرية ذهنيةٌ فكْريةٌ لا حدودَ جامدةً لها.
هذا هو اللبنان الذي سيسطع خارجًا من عتمته الجاثمة: لبنانُ الوطنُ الهوية الدائمة لا الدولة الكرتونية الغاشمة، لبنانُ الجذورِ التاريخية العظيمة تَعصمُه من كل وَهن، بفضل المخْلصين من أَبنائه الأَقوياء.
ما سِرُّه، وطني؟
هوذا سرُّه: وُلِد باسمِه الدائم، لبنان، من أَول التاريخ، وسيبقى خالدًا متجاوزًا صغائر اليوضاسيين، طالعًا أَبدًا من فجرٍ إِلى فجر، مُعْلنًا كُلَّ يومٍ حُضوره في صباح الأُمم.
وهذه هي الأُعجوبةُ اللبنانية !
هـنـري زغـيـب