“نقطة على الحرف” – الحلقة 1476
أُمّ الكل
“صوت كلّ لبنان” – الأَحـد 9 آب 2020

التي احتضَنت ثلاثة أَطفال حديثي الولادة، وهرعَت بهم نُزولًا على درجاتٍ من كُسُور الزجاج، ولم تسأَل في العتمة عن جراح قدميها، وركضَت بهم خارجًا تبحث عن مستشفى يتعهَّدهم بعدما بات مستشفاها حُطامًا، وضامَّةً إِياهم إلى صدرها مشَت بهم خمسة كيلومترات بطُولها كان الناس يخلعون ستراتهم ويغطُّون بها الأَطفال الراجفين من برد، حتى وصلَت بهم إِلى مستشفًى فيه غرفةٌ تحويهم، لم تَعُد مُـمَرِّضةً، مُـجرَّد مُـمرِّضةٍ تقوم بواجبها المهني، بل صارت أُمًّا حنونًا مذعورةً على صغارها برُعبٍ جعلَها تحتلُّ الصفحات الأُولى من الصحُف والدقائِقَ الأُولى من أَفلام نشرات الأَخبار.

إِن كانت الأُمومةُ علامةَ الإِنسانية، فتلك الممرضة أُمٌّ تُعَنْوِنُ الإِنسانية، حتى لَـهْي “أُمّ الكلّ” في هذه الأَيام التي زادت في سوادِها قَصديريَّةُ ضمير المسؤُولين، فلاذُوا في بيوتهم وأَحكموا إِقفال أَبوابها لأَن أَبوابهم ما زالت ذات أَقفال، فيما تشلَّعت أَبوابُ الناس ونوافذُ الناس وبيوتُ الناس التي انهارت على سكانها فتشرَّدوا في شوارع بيروت عُراةً من المأْوى، حفاةً من المصير، في دولةٍ بقيَ أَركانها في جُحُورهم بينما هَرَع المواطنون إِلى بيروت، من كل منطقة في لبنان هَرَعوا، حاملين لهفتَهم ومواطنيَّتَهم ومعدَّاتِهم هَرَعوا ليُنجدوا إِخوانهم أَبناءَ بيروت وسكَّانَ بيروت وأَحبابَ بيروت، إِلى لَـمْلَمَة الحجارة هَرَعوا، إِلى تقديم لوازمَ وأَغذيةٍ وإِسعافات هَرَعوا، باندفاعهم الإِنساني هَرَعوا، بِـحسِّهم الوطني هَرَعوا، في أَصعب أَيام بيروت ركضوا إِليها بدون أَسماء بل بِــبُــنُــوَّتهم الوفيّةٍ كما إِلى أُمِّهم هَرَعوا لأَنها أُمُّهُم جميعًا وتحبُّهم وتضُمُّهُم إِلى صدرها كما تلك الممرضةُ الرائعةُ حَضَنت إِلى صدرها الأُمومي ثلاثةَ أَطفالٍ حديثي الولادة.

في انفجار بيروت، فاضَ حُبُّ لبنان في قلوب أَبناء لبنان، متضامنين مع إِخوانهم في الوطن، مُدركين أَنَّ المسؤُولين غيرُ مسؤُولين، يتفرَّجون من بعيدٍ على مآسي الشعب فيما رئيسُ الأُمَّة الفرنسية أَوَّلُ خطوةٍ له على أَرض لبنان كانت لِلِقاءِ شعب لبنان قبل لقائِهِ مسؤُولي لبنان الذين يَعرف هو، ويَعرف الشعب، ويَعرف العالم أَنهم فاسدون عقيمون ليسوا على مستوى المسؤُولية حتى أَنهم مَنَعوا الفِرَق الطبية والإِسعافية من دخول لبنان للمساعدة.

ولكنَّ الإِعانات بدأَت تصِل إِنما إِلى الشعب، إِلى مجتمعه المدني، إِلى جمعياته غيرِ الحكومية لأَن البيئة الحكومية فاسدةٌ مُنْتِنَة لا ثقة بها ولا بأَشخاصها الدُمى الخاضعين لِـمَن يُـمسك بخيطانهم. ذلك أَنهم سَقَطوا. بِغَضَب الشعب سَقَطوا. بِلَعْنة اليتامى والأَرامل سَقَطوا. بدموع المفجوعين سَقَطوا، وباستشهاد ممرِّضات وممرِّضين وأَطباء وشباب الدِفاع المدني وفوج الإِطفاء في بيروت. بِرَفْض العالَـمِ التعامُلَ معهم سَقَطوا. وسَقَطوا تحت مِقْصَلة العصر ينزِل بها شعبُنا على جميع الـ”ماري أَنطوانيتِ”ــــيِّين، ذلك أَنَّ بوَّابة الباستيل اللبناني انخلَعَت تحت ضربات الشَعب الغاضب على كل نيرونٍ غاصب جعَلَ الشمسَ بعد ليل مُرعب تُشرق على ناسٍ بلا بيوت، ومواطنين مَـحمولين إِلى مقابرهم في التوابيت البيضاء.

وإِنَّ دولةً مُهْمِلةً تُشكِّل لجانًا عقيمةً فيما الأَهالي يَسيرون وراء نعوش أَبنائِهم، هي دولةٌ عاقرٌ لن تُنْجِبَ إِلَّا الخُواءَ العقيم، ولا تستحقُّ الحُكْم، وخصوصًا خصوصًا لا تستحِقُّ أَبدًا نعمةَ أَن تحكُمَ لبنان.

هنري زغيب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib