بدأَت تصدر، لدى بعض البلدان، تدابيرُ الخروج تدريجيًّا من التعبئة العامة في المدن التي كانت مغلقَةً تمامًا بإِحكامٍ صارمٍ ومتابعةٍ حازمةٍ مكَّنَت المواطنين والسكَّان من التحرُّك، ولو بإِجراءاتٍ متحفظةٍ في البدء، أَملًا بتوسُّعها صوب الخروج النهائي من الحذَر وإِن يَكُن غيرَ قريبٍ هذا الصوب.
قلت “الحذَر”، وأُركِّز على أَقصاه هنا، وهو التَباعُدُ الجسَدي بوضْع الكمَّامة عند التنقُّل مع الآخرين أَو بينهُم. والحذَر في هذا الحذَر أَلَّا يتمدَّد من التباعُد الجسدي الفردي إِلى التباعُد الجَماعي فالاجتماعي فالمجتمعي. وإِذا التباعُد الفردي ضروريٌّ راهنًا، فقد يصبح مؤْذيًا حين يرسِّخ في الفرد نفسيًّا حسَّ البُعد عن الآخَر وانطباعَ كأَنَّ هذا الآخَر – معنا أَو حَولنا أَو أَمامنا أَو قبالتَنا – إِنما هو خصْمٌ أَو عدُوٌّ لإِمكان أَن يكون ناقلًا جرثومة الوباء، فَنَتَجَنَّبُه مبتعدين، ونَنْزَوي خلف الكمامة على الوجه وداخل القفَّازات في اليدين، حرصًا على سلامتنا واتقاءً “كورونيةَ” الإِصابة الإِيجابية.
ولأَن الطفولةَ إِسفنجةٌ لاقطةٌ كلَّ ظاهرة، سيكون ضروريًّا إِيضاحُ الظاهرة للصغار كي لا تنمو لديهم كراهيةُ الآخَر فتتنامى عِدائيةً تزيد الخوفَ من الآخَر والابتعادَ عنه ذهنيًّا وجسديًّا ما يولِّد لدى الصغار شعور العنصرية ضدَّ الآخر، كلِّ آخر، أَيًّا يكُن ومهما يكُن وأَنّى يكُن.
الأَولويةُ الآن للتباعُد؟ صحيح، على أَلَّا يصبحَ التباعُد نمطًا أَو سُلُوكًا أَو تصرُّفًا عدائيًّا حين يخرج الصغار إِلى مدارسهم أَو صُفوفهم أَو ملاعبهم أَو نُزهاتهم أَو واحاتهم المعجوقة بأَترابٍ لهم كانوا قبل اليوم يقصدونهم وقد يتجنبونهم بعد اليوم. هنا دور الأَهل ورسالة المربين التربويين كي يدرِّبوا الصغار والناشئة على دُربة كسْرِ الخوف من الآخَر، والانفتاحِ على الآخَر بدون حذَر أَو كراهية أَو غضب، وتبسيطِ المفاهيم كي لا يصاب صغارنا وناشئتنا بِلَوثة التوحُّد والانفراد لأَنها علَّة دائمة أَخطرُ من كورونا داهمة جعلت حتى الكبار يتوجَّسون من كل آخَر قد يكون حاملًا جرثومة المرض أَو الأَذى أَو الخطر أَو الموت، فيهرعون إِلى الأَمان واجدينَهُ في الابتعاد والانعزال.
التقرُّبُ من الآخَر يُبعد الخوف من الآخَر، والتقارُبُ الاجتماعي ينمِّي تقبُّل الآخر، والتعرُّفُ إِلى الآخَر يكسر العنصرية، والانغماسُ في المجتمع يُلغي الحقد والتصنيف وكلَّ تمييزٍ عِدائيّ طبقيّ ودينيّ ومذهبيّ وطائفيّ وعرقيّ وعنصريّ واجتماعيّ ومجتمعيّ وفوقيّ وميزوانتروﭘِّـي مريض، كم نشهدُه اليوم حتى لدى دوَل كبرى تَتَكَارَهُ وتتقاذفُ التُهم بنشْر الكورونا فتنتقل عدوى الكُره والتُهم إِلى شعوب تلك الدول.
هذه الجائحة اليوم اجتاحت الكوكب كلَّه وستمضي، لكنَّ أَخطر ما في تردُّداتها اللاحقة أَن تترك خلفها جائحةً أُخرى دائمة هي نزعةُ التوجُّس من الآخَرين، وهذه، عندئذٍ، آفةٌ اجتماعية نفسية ذهنية جماعية لا علاج لها، حتى بَعدَ اكتشاف لَقَاح لعلاج الجسد.
هـنـري زغـيـب