انقضَت أَيامُ الفِصحين، غربيُّها والشرقيُّ، لكنَّ رموزَها، نقيَّها والفاسِد، لم تنْقَضِ من عندنا بَعد، ولا نرى في أُفقِنا البعيد مَغيبًا ولا غَسَقًا لانقضائِها.
تُجمِعُ الأَربعةُ الأَناجيل أَنَّ بيلاطُس لم يجِد ليسوع تهمةً يحاكمه عليها، فخرج إِلى اليهود المتجمهرين في ساحة قصره وقال لهم: “لستُ أَجد فيه علَّة”. فلم يرتدِعوا عن الصراخ. قال بيلاطُس: “في العادة عند الفِصح أَن أُطْلِق لكم سجينًا واحدًا تسمُّونه، فهل أُطْلق لكُم ملِك اليهود هذا”؟ فصرَخوا جميعًا: “لا ليس هذا، بل باراباس”. وكان باراباس لصًا مقترِفاً شرورًا عدة، فراح رؤَساء الكهنة والشيوخ يحرِّضون الجموع بالإِلحاح على بيلاطُس أَن يُطْلقَ باراباس ويُهْلِكَ يسوع. سأَلهم بيلاطُس: “وماذا عن يسوع الذي يُدعى المسيح”؟ فأَجابوا بصرخة واحدة: “ليُصْلَب… ليُصْلَب”. حينئِذٍ أَطلَق لهم باراباس، وأَمر بتسليم يَسوع إِلى جلَّاديه كي يجلُدوه ويصلُبوه (متى: الفصل 28، يوحنا: الفصل 12).
ومن فِصح اليهود المنقضي في الإِنجيل، إِلى جلجلة لبنان الدائمة غيرِ المنقضية، وإلى عشَّاري لبنان الذين يصرُخون لبيلاُطسِهم أَن يُطلق باراباسيِّـي الفساد والسرقات والخيانات، وأَن يَصلُب شعبَ لبنان البريْءَ الذي لم يقترف علَّةً سوى أَنه يُصدِّق سياسيين تجارًا وعشَّارين ومُرابين يقع دائمًا ضحيَّتَهم فيرفعونه على جلجلة العذاب ويجلُدُونه بسياطِ أَكاذيبهم ويَسقُونه خَلّ التجرُّؤ على انتقادِهم والثورة عليهم.
أَعود إِلى إِنجيل لوقا (الفصل 23) فأَقرأُ أَنْ كان عن جانبَي يسوع لصَّان مصلُوبان مثله، وأَنَّ اللص الأَيمن قال للجلَّاد: “نحن محكومان بِعدْلٍ استحقاقَ ما فعلْنا، أَمَّا هذا فلَم يفعلْ شيئًا ليس في محلِّه”. والتفتَ هذا اللصُ الأَيمنُ إِلى يسوع وقال له: “اذْكُرْني يا ربُّ متى جئْتَ في ملَكُوتكَ”، فأَجابه يَسُوعُ: “الحقَّ أَقولُ لَك: إِنَّكَ اليومَ تَكُونُ معي في الفردَوس”.
فمَن تُراه اليوم في لبنان، بَين لُصوص اليمين ولصوص اليسار، يستحقُّ أَن يكونَ مع المخلِّص في فردَوس لبنان؟ وهل بقي لصٌّ بين الفاسدين لم يجلُد شعبَ لبنان ويسرِقْ أَموالَه وأَحلامَه ويهجِّرْ أَبناءَه ويحرِمْه العيشَ بكرامةٍ وأَمان؟
كثيرون في لبنان هُم البيلاطُسيون الذين سلَّموا شعبَ لبنان إِلى جلَّاديه فَصَلَبُوه.
كثيرون في لبنان هُم اليوضاسيون الذين خانوا لبنان فباعوا شعبَه لا بثلاثين فضةً بل بمليارات الفضيات من مال الشعب وتعَب الشعب وضرائب الشعب.
كثيرون هم القِيافَاوِيُّون الذين يتربَّعون على مناصبَ وثيرةٍ يحملُها الشعب على أَكتافه ويهيِّص لهم ويهتِف لهم ويناديهم أَنه “بالروح بالدم” يَفْديهم، وهم يرتَعون في مناصبهم ومقاعدهم ومراكزهم وزعاماتهم مطمئِنِّين إِلى سذاجة الشعب ورضُوخه الـمُذعن.
غير أَنهم لا يحسَبون حسابًا لليوم الثالث، يومَ الشعبُ سيُنزِلُ لبنانَ عن الصليب، ويُدحرج الحجَر عن قَبره، ويَخْلَع عنه كفَنَ جلَّاديه، وينهالُ بسياط النار على باراباسـيـي الوطن، ويَطرُد البيلاطُسيين من قُصورهم، ويَشنُقُ اليوضاسيين على جميع تينات الوطن اليابسة، ويَهجُم على هيكل الوطن فيُفْرِغُه من تجَّاره الأَبالسة الـمُرابين… ويومَها يلتَمُّ الشعبُ كلُّه في قيامةٍ واحدة وخلاصٍ واحد وهَتْفَةٍ واحدة: “لبنانُ قام… حقًا قام”.
هـنـري زغـيـب