في السائد القولُ أَنْ “لكلِّ مقامٍ مقال”. لكنَّني أَرى الأَصح أَن يكون “لكلِّ زمَنٍ مقال”.
فالمقام قد يتغيَّر مع الظرف والمكان، أَمَّا الزمن فمتغيِّرٌ فترةً وظرفًا وسياقًا.
وهو ما نشهده واضحًا، في المكتوب أَو المحكيِّ، من كلمات وعبارات تسقط من الاستعمال مع الزمن وتنشأُ أُخرى تتَّخذ من عصرها أَو فترتها مدلولَها الذي قد تلبَس له معنًى غيرَ الذي كانت له أَصلًا، فيَسري استعمالُها في فترتها وتصبح جُزءًا عضويًّا من حياتنا اللغوية.
من تلك الرائجة اليوم والمتحوِّلة معنًى وسياقًا: عبارة “التباعُد الاجتماعي” وهي متناقضةٌ لفظًا ومعنًى، إِذ التباعُد يعني الانفصال، والاجتماع يعني الاختلاط والتلاقي والاتصال، فكيف – باستعمالها اليومَ هكذا – يكون انفصالٌ واتصالٌ في عبارة واحدة؟
ومن تلك العبارات الرائجة: “الأَكثر عُرضةً”، وهي تعني عادةً تعرُّضًا سلبيًّا للخطر، تُستعمَل اليوم لكبار السن ولو لم يكونوا في خطر.
ومن تلك العبارات: “العزْل المنزلي” وهي تُستعمَل عادةً للمصابين بأَمراضٍ مُعْدية، تُستعمَل اليوم لجميع أَهل البيت ولو لم يكونوا مصابين بوباء.
ومنها أَيضًا عبارة “عن بُعد” وهي تُستعمَل عادةً للتنائي القسْري بمعناه السلبي، تستعمَل اليوم إِيجابًا للدراسة عن بُعد، أَو للعمل عن بُعد، أَو للاجتماعات المِهنية عن بُعد، أَو للمناظرات عن بُعد، وسواها.
ومن الكلمات المتداوَلة راهنًا: “الحجْر”، وهي تُستعمَل عادةً للمجذومين والموبوئين والمختلين عقليًّا، تستعمَل اليوم لجميع الناس كي ينحجروا في بيوتهم اتقاءً للكورونا.
ومن الكلمات أَيضًا: “الاحتواء” وهي تستعمَل عادةً لأُمور إِيجابية كاحتواء الأَهل أَو الأَحبَّة، تستعمَل اليوم لأَمر سلبي هو احتواءُ الوباء.
ومن الكلمات: “الإِغلاق” المستعمَلَة لكل مُضرٍّ أَو مشبوه، كإِغلاق النوافذ أَو الأَبواب اتقاءَ بَردٍ أَو مطر، تستعمَل اليوم لكل مُفيدٍ أَو سليم، كإِغلاق المدارس والمصارف والمحالِّ التجارية والمقارِّ الرسمية وأَبواب الرزق.
ومن الكلمات أَيضًا: “الجائحة” وهي تعني استئْصالَ الشيء القبيح أَو المؤْذي أَو عملَ المجتاح أَو المصيبةَ الكبرى، فيقال “جَحا فلانٌ فلانًا أَي اجتاحه”، أَو “اجتاحَ الشيْءَ أَي استأْصلَه واقتلَعَه”، فإِذا بها اليوم تجتاح أَموالَنا وتستأْصلها من المصارف قبل جائحة الـﭭـيروس القاتل!!!
ومنها أَخيرًا، لا آخرًا، كلمة “التفَشِّي” وكانت للحذر والاتِّقاء، باتت اليوم رديفةَ الخوف والرعب والاحتماء من الوباء خوف التفَشي فالإِصابةِ فالحجْرِ فالعزْلِ فالموتِ فسائر المعاني السيِّئة والمخيفة.
الشاهدُ من كل هذه المتغيرات أَن اللغة تكتسب معناها لا مَقامًا بل زمنًا، فليس “لكلِّ مقامٍ مقال” بل لكل زمن كلماتٌ تولد فيه وتموت بعده، لأَنها متغيرةٌ فترةً وظرفًا وسياقًا.
ختامًا: مهما تغيَّرَت أزمنةُ معاني الكلمات، يبقى للزمن الدائم أَنَّ التضامنَ الإِنساني يظلُّ أَقوى من أَيِّ مفْرَدَة شيطانية.
فعسى أَن تَنرفعَ عنا معاني بعض الكلمات المتداوَلَة، سلبيتُها والمخيفة، كما هي اليوم، وأَن تعودَ إِلى معانيها الأَصلية، إِيجابيَّـتِها والعادية، فتكونَ لزمَننا اليوم كلماتُه الإِنسانيةُ بدون خوفٍ من التلفُّظ وبدون قلقٍ من التداول بفَحوى تلك الكلمات.
هـنـري زغـيـب