“نقطة على الحرف” – الحلقة 1456
في دُهمة الخوف والخطر وحدَه الحبُّ خلاصُ الإنسان
“صوت لبنان” – الأَحـد 22آذار 2020

عمَّت وسائطَ التواصل هذا الأُسبوع صورةٌ غصَّت لها القلوبُ والعيونُ حسرةً وبعضَ شفقة، هي صورةُ ذاك العجوز الواقف في أَحد المخازن البريطانية الكبرى، حاملًا لائحةَ حاجاتٍ جاء يشتريها، واقفًا أَمام رفوف طويلةٍ مديدةٍ إِنما فارغة كلِّيًّا من أَيِّ بضاعة.

وانهالت على شاشات التواصل تعليقاتٌ بالمئات مترنحةً بين الغَضب على أَنانيةِ مَن اجتاحوا الرفوفَ بنهَم الاحتكار تاركينَها فارغةً لمَن بعدهم، وبين إِرادةِ البقاء التي دفعَت “مجتاحي” الرفوف إِلى تلَقُّفِ ما أَمامهم ولو انهم لن يحتاجوه كلَّه، على الأَقلِّ في المدَيين القريب أَو المتوسط، حارمين منها مَن يحتاجونها حاليًا للتزوُّد بها مأْكلًا أَو تحضيرًا لمأْكل. وفي هذا المشهد يظهر الهلعُ الفردي الأَناني والخوفُ من المجهول، ويتكاثر المُضِرُّون والمُتضرِّرون، وتتمرأَى قسوةُ الإِنسان على أَخيه الإِنسان في دُهمة الخوف والخطر.

صحيح أَنَّ هذا الكورونا الشبحيَّ القاتلَ يُرعب الجميع في هذه القرية الكونية الكبرى المسمَّاة كوكب الأَرض، وصحيح أَنَّ فراغ الرفوف في المخازن يُبرِّره خوفُ المواطنين من صدور قرار من الدولة بحظر التجوُّل في حالة طوارئَ طارئةٍ قد تدهمهم، لكنَّ الصحيح أَيضًا أَنَّ العلاقات الإِنسانية تشدُّ الناسَ بعضَهم إِلى بعض فلا تمَّحي من قلوبهم عاطفةُ الرحمة والمحبة حيال الآخرين، أَقرَبيهم والأَبْعَدين، وهذه العاطفةُ هي الأَبقى نجمةً مشعَّة بعد غياب كل شمس.

التدابير التي اتخذها الحكَّام في دول العالم، أَوكلوها إِلى المعنيين من وزراء ومسؤُولين، ولم يدخلوا في تفاصيل الأَمن الغذائي والصحي وسائرِ الإِجراءَات، فخاطبوا شعوبهم لا بعقل الحاكم وقراراته بل بقلبه وخلَجاته.

فهذه إِنجلا مُركِل، والأَلمان معروفون بعقلانيَّتهم الصارمة، قالت لشعبها الأَلماني قبل يومين: “فلْنحسُر هذه الأَيام حياتَنا العامة إِلى حدِّها الأَدنى، ولنَجِدْ لعائلاتنا ومجتمعنا طرُقًا للتقارُب تُظهر تضامُنَنا معًا بعاطفةٍ حنون، ولْيَكن كلٌّ منا يدًا للسوى الْمُحتاجها حتى نتوَحَّدَ يدًا واحدة كبيرة تحتضن وطننا المهدَّد بالخطر”.

وهذا إِيمانويل ماكرون يستدعي كلماتِ مواطنه الفرنسي أَلبير كامو في روايته “الطاعون” ورؤْيتَه لتَوَحُّد أَهل وهران على عاطفة التضامن ونبْذ الأَحقاد وتغييب الفروقات إِلى أَن نجَت المدينة من الطاعون،كما يأْمل الرئيس الفرنسي أَن تخرجَ بلادُه اليوم من براثن الوحش الكورونيّ.

من صورة ذاك البْريطاني العجوز الواقف حزينًا أَمام رفوفٍ خاوية لم يبقَ له منها أَيُّ ما يحتاجه ليحملَه معه إِلى بيته الخاوي، يتردَّد في قلبي صوتٌ حنون، صوتُ عاطفةٍ حنون، يقول: “في هذه الأَيام الصعبة، أَرى إِلى المحتاجين بحنوٍّ فائق، وأَضرع لهم أَن يعرفوا الحب. ففي الحب وحدَه إِنقاذُ الإِنسان من كل خطر، وبالحب وحدَه يتَّحد العالم فيكون أَقلَّ عنفًا وأَكثرَ رحمةً على جميع مَن في الأَرض”.

يتردَّد بي هذا الصوتُ الحنونُ فيُشرقُ في قلبي أَملُ أَن تجتاز بلاديَ الآتي من الأَسابيعِ القاسية، وأَضرعُ أَن يَمضي الخطر فتعوَدَ إِلى سمانا العصافير، وإِلى حقولنا الفراشات، وإِلى عيوننا ومضةُ الفرح، والبسمةُ البيضاء إِلى وجوه الأَطفال.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib