في اليوم العالـمي للُّغة الأُم (سنويًّا في21 شباط) تـجمُلُ العودةُ إِلى اليُنبوع الأَول، بغِناه ووَفْرة كُنوزٍ فيه لا غنى عنها لتَقَدُّم العقل بإِتقان اللغة وهي بنتُ العقل والـمنطق.
في سبيل هذه العودة رجعتُ إِلى كتاب الأَب هنري لامِنْس اليسوعي “فرائد اللغة” (عن المطبعة الكاثوليكية سنة 1889)، وفي مقدمته أَن “اللغة العربية بَـحرٌ طافح بالأَلفاظ المتقارِبة المعنى، زاخرةٌ بالكلمات المتشاكلة في المدلول والمغزى، وقد يختلط على الكاتب أَن يفرِّقَ بينها”.
ولأَن الوطن اليوم يمرُّ في هذا النفَق الضيِّق، الطويل والضيِّق، الـمُظلم والضيِّق، الـموبوء والضيِّق، بَلانا به مَن رَتَعوا طويلًا في خيرات الشعب، حتى حلَّت البلوى فوقَعت لا عليهم بل على الشعب، وواجهَتْ بَلوانا حكومةٌ يرى بعضهم شظاياها ابتلاءً حسَنًا و”لْنُعطها فرصة”، ويراها بعضهم الآخر ابتلاءً سيئًا لا جدوى من الركون إِليها، لَـجأْتُ إِلى لغتنا الأُم مستفسرًا من كتاب الأَب لامِنْس في فصل “البلوى” فقرأْتُ الآتي: “الإِبلاء والابتلاء هما بمعنى الامتحان والاختبار. قال القُتَيْبيّ (أَبو محمد بن قُتَيْبة): يقال في الخير أَبْلَيتُه أُبْليه إِبلاءً، وفي الشر بَلَوْتُه أَبْلُوه بلاءً. وعن ابن الأَثير أَن الابتلاء يكون في الخير والشر معًا، من غير فَرق في فعْلهما”.
جاء في القرآن الكريم: “وبَلَوْناهم بالحسَنات والسيِّئَات” (الأَعراف 168) أَي “اختَبَرْناهم”. ولا نعني هنا أَعضاء الحكومة الجديدة بل مَن “أَهْدَونا” إِياها وكنا اختبرناهم طويلًا فَفَلَحوا في حُكْمنا إِذ أَفلحوا في التحَكُّم بنا. جاء في سورة الأَنبياء (35): “ونَبْلُوكم بالخير والشَر فتنةً” أَي نختبرُكم بالشَر لنعرفَ كيف يكون صبرُكم، ونختبرُكم بالخير لنعرفَ كيف شُكْركُم يكون. من هنا الآية الكريمة “وفي ذَلِكُمْ بَلاءٌ من رَبِّكُمْ عظيمٌ” (البقرة 49).
في اليوم العالـمي للُّغة الأُم نلجأُ إِليها كي نتبيَّن منها الأَصل: الشَر في الثلاثي (بَلَوْناكم)، والخير في الرباعي (أَبلَيْناكم) فأَين قَدَرُنا مع هذا الجسم الحكومي، هذا الطقْم الحاكم، هذا العهد الـمُتَحَكِّم: أَفي الثلاثي أَم في الرباعي؟ وكيف نتلقَّى هذا القَدَر ونواجهُه: رباعيًّا فنكْسِره؟ أَم ثلاثيًّا فيكْسِرنا؟
إِذا كان البلاءُ هو الامتحان فإِننا (كما جاء في “لسان العرب”) نستنجدُ بالحديث: “اللَهُمَّ لا تَبْلُنا إِلَّا بالتي هي أَحسَن”. و”الأَحسَن” هنا: خلاصُنا من البَلاء الشرير إِلى الإِبلاء الـحسَن، مبتهلين إِلى الحياة التي يَستحقُّها هانئةً شعبُ لبنان الـمغلوبُ على أَمره الـمَـبْلُوُّ من طغْمة تَـحْكُمُه قَسريًّا وتَتَحَكَّم به وراثيًّا منذ عقود، تقْضُم خيراته وتجفِّف شرايـينه، ضارعين إِلى هذه الحياة لا أَن تُنقذَنا من النفَق الضيِّق بل مـمَّن أَدخلونا منذ عقودٍ إِلى هذا النفَق الضيِّق لتَضيقَ فيه أَنفاسُهم فتَنفتحَ أَنفاسُنا على حياةٍ نستحقُّها بعدما خطيئَتُنا كانت عظيمةً بتصديقهم فيما هُم أَبعدُ خَلْق الله عن الصِدق والـمِصداق والتصديق.
هـنـري زغـيـب