“نقطة على الحرف” – الحلقة 1451
حماية ماضينا من جهل حاضرنا
 “صوت لبنان”  – الأَحـد 16 شباط 2020

         قبل تسع سنوات بالضبط، في شباط 2011، قبل 470 حلقة من اليوم، كتبتُ في الحلقة 980 من هذا البرنامج، كيف كانت شوارع القاهرة تضُجّ بـمتظاهرين هائجين خرَّبوها، حتى إِذا كادوا يجتاحون متحف القاهرة في ميدان التحرير، هرع الأَهالي العارفون قيمةَ المتحف وما فيه، فتَحلَّقُوا حول المتحف، وزَنَّروه بسياجٍ بشريٍّ رادِع لكي يَحموا ما فيه من روائع تاريخ مصر العريق، فينقذوا ماضي مصر وحاضرَ مصر وغَدَ الحضارة في مصر.

         في بيروت 1975، مع اقتراب الخطر من خط التَماس عند متحف بيروت، لَطَف الله بلبنان أَن كان له المير موريس شهاب فأَخفى القِطع الصغيرة في الطابق السُفلي وأَحاطها بجدران إِسمنت مسلَّح، وغطَّى قطع الفسيفساء في الطبقة الأَرضية بطبقة سميكة من الإِسمنت، وأَخفى القطَع الكبيرة من نواويس وتماثيل بأَكياس رملية كبيرة عالية.

         في بيروت هذا الأُسبوع، أَطاح مُخرِّبون أَسوار “مشروع متحف بيروت”، وعبَثوا حرقًا وتـخريبًا وبعثَرَةً بنحو 600 صندوق، في داخلها موضَّبةٌ كِسَرٌ فخارية أَثرية وعيِّنات مُعَدَّةٌ للدراسة والتحاليل، وفَتَّتَت النار أَرضيات فسيفسائية وتقاطيعَ جدران أَثرية ذات رسوم وإِشارات ملونة، واقتلَع المخربون أَقسامًا من السياج الخارجي الخشبي الركيك فدخلوا حرَم تلك المقدَّسات الأَثرية وكسَّروا التماثيل حجارةً قذفوا بها قوى الأَمن بُغية بلوغ ساحة النجمة لتعطيل جلسة الثقة بــالمسمَّاة “حكومة التحدي”.

         وكانت يومها في بيروت جدران إِسمنتية عالية إِنما… لا لحماية آثار لبنان التي عُمرها من عُمر التاريخ، بل لحماية نواب خائفين مرعوبين مذعورين تسلَّلوا خِلسةً من وراء الجدران التي أَعلَتْها الدولة لحمايتهم من كل سوء – لا سمح الله ورعاهم وحماهم – حتى يدخلوا ويَتَعَنْتَروا بـخُطبٍ معلَّبة، ويصوِّتوا فيسجِّلوا للتاريخ مواقفهم التاريخية الجليلة.

         وزارة الثقافة المعنية بالأَمر، طرَحت الصوت وأَصدرت بيانًا أَبدت فيه حرصها “على صَوْن الذاكرة الوطنية والوجه الحضاري للعاصمة بيروت”، وأَكثر من ذلك: طلبَت الوزارة من القضاء المختص “ضرورة التحرُّك بشكل عاجل لملاحقة ومحاكمة كل مَن يتعرض لإِرثنا الثقافي، بانتظار نتيجة التحقيقات الجارية لتحديد المسؤُوليات”. وأَكدت المديرية العامة للآثار أَن “حماية الإِرث الثقافي والمواقع الأَثرية والتاريخية، مسؤُولية وطنية جمعاء”، وهي “تناشد المواطنين مؤَازرتها في حماية وصَوْن تراثنا وتاريخنا وآثارنا”.

         فيا وزارة الثقافة، يا حضرة “الست مرتا”، لا من المواطنين تطلبين المؤَازرة بل من لجنة دولية تُرسلها منظمة الأُونسكو على عجَل كي تدرس كيفية حماية الآثار التي لا تعوَّض إِن أُتْلِفَت. ولا أَحدٌ ينتظر بيانكِ البليغ كي يتعلَّم صَوْن الذاكرة الوطنية، ولا تنتظري سلحفاة التحقيقات لتحديد المسؤُوليات بل بادري فورًا إِلى تشديد الحراسة الرادعة لحماية ماضينا من جهل حاضرنا.

         دولتُنا أَعلَت الجدران السميكة لحماية سياسيين زائلين عابرين في ذاكرة لبنان كالغيم العابر تُفَتِّتُه الريح، عوض أَن تُعْلي الجدران لحماية ماضينا الجليل، هويتِنا الحقيقية في ذاكرة الزمان، فهذه الهوية الحضارية حضورُ حاضرِنا وأَول واجباته: حماية إِرثنا الذي هو قمحُنا الخالد لـخُبز الـمستقبل.  

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib