هذا لافونتين وهذه طاولتُه. هذا ﭘـول ﭬِـرلين مسترخيًا بقبَّعته على جدار المقهى. هذا ديدرو بـمهابته في لوحة زيتية. هذا روسُّو وزاويتُه الـدائمة. هذا ﭬـولتير في لوحة كبيرةٍ تعلوها عبارتُه الشهيرة: “هنا أَولُ مقهى وحدَه الفكْر فيه بطاقةُ دعوة”، وهذه قــبَّعة ناﭘـوليون ذاتُ القرنَين، تَرَكَها تعويضًا عن فاتورة غَدَاءٍ لـم يدفَعْها نقدًا.
هذا قليلٌ من كثيرِ ما في ذكريات مقهى “ﭘـروكوپ” (قلب مونـﭙـارناس قبالة “الكوميدي فرانسيز”) أَقدم مقهى في ﭘـاريس، أَسَّسَه سنة 1868 الصقْليّ فرنْشِسْكُو ﭘْـروكُوﭘْــيـو أَولُ مَن قدَّم لزبائنه قرون البوظة على الطريقة العربية كما ورِثَها عن جدِّه. اشتهر المقهى وتحوَّل لاحقًا إِلى مطعمٍ استقطب كبار أَعلام العصر: بلزاك، هوغو، روبسـﭙـيير، دالـمبير، وآخرين. فرادَتُه اليوم أَنه مـحافظٌ على شكل الأَثاث والديكور كما كانا منذ قرون، حتى لَيَخال زائــرُه أَنه يتناول وَجْبته إِلى طاولةٍ كم جلَسَ على مقعدها أَحد أُولئِك الكبار الذين تفخر بهم لافتة رخامية على مدخل الـمطعم.
طبعًا هذا في ﭘـاريس أَمرٌ بديهيٌّ، في وطن يعرف كيف يَـحفَظ ذاكرتَه بــحفْظ تراثه: تماثيل عظمائِه، تسمية الشوارع والجادات بأَسمائِهم، حفْظ أَغراضهم الشخصية وأَوراقهم ومتروكاتهم في متاحفَ تُبقي ذِكْرَهم خالدًا على الأَيام، تُــتَــوِّجُها عظَمةُ الـﭙـانتيون وعبارةٌ محفورةٌ فوق مدخله الـمهيب تَشهَد: “العظماءُ تعترف بفضلهم أُمَّتُهم”.
هي الـمَعالـمُ إِذًا تَشهد للكبار والأَحداث والأَماكن والآثار والأَدوات بـما يَـحفَظ كنوزَهم من هبوب السنوات.
هي الـمَعالـمُ عناوينُ تراث الوطن. فهل نـحن حقًا نَـحرص على هذا الـمَعالـم؟
ما دُمنا في حديث المقاهي والمطاعم ومعالـمها الـمحفوظة في ﭘـاريس: كيف كان يُـمكن السماح بتهديم “مقهى الحاج داود” وهو كان ملتقى طبقة واسعة من أَعلام عصرهم؟ ومَن ذا يَذكُر اليوم “الكاڤ دو رْوَى” كان ملتقى نجوم الزمن الراقي من الشرق والغرب، وبات اليوم قابعًا في قعر الــ”إِكْسِلْسْيُور”، مبنى مهجور خالٍ يُعشعش فيه العنكبوت؟
إِن للأَماكن قوَّتَـها وقُدرَتَـها على الـجذْب الثقافي والسياحي بـما تَـحمله من قِــيَــمٍ وعَراقةٍ وهويةٍ اجتماعية، فهل نحن نحافظ عليها؟
أَيُّ إِرثٍ تناولْناه كي نُنَاوِلَه أَجيالَنا المقبلة، غير تراث المذاهب والعقائد وأَصنام السياسة وتراث طقوس حزبية وإِقطاعية تُنْشِئُ أَجيالنا الجديدة على الانقسامات الوَلائية الزبائنية عوضَ أَن تَــجمَع أَبناءَنا وأَبناءَهم على تراث وطنهم الغالي عند كل شبر من أَرضه ولدى كل منعطف من تاريخه؟
إِخالُ ﭘْـروكُوﭘْـيـو ﭘـاريس شاءَ تراثُ مقهاه التاريخي أَن يُـحيّـي الحاج داود بـتراثَ مقهاه الذي على أَلواحه الخشبية كم تردَّدَت أَصداء من تاريخ بيروت وبعض لبنان.
وأَرى التحية لا تصِل، لأَن مقهى ﭘـاريس ما زال نابضًا بتراثه شاهدًا منذ 333 سنة، فيما مقهى بيروت انهدَمَ وضاع تراثُه مع انـهيار أَلواحه مفجوعةً شهيدةً في عمْق البحر.
هـنـري زغـيـب