في حوار طويل من خمس حلقات صدرَت أُولاها أَمس الأَول (الخميس) في جريدة “الـموند”، قال الروائيُّ اليابانيُّ هاروكي موراكامي: “عمَلي هو إِطلاق النصوص لا تسهيل تفسيرها”.
هذا الكلام قد يبدو متكبِّرًا لو صدَر عن كاتب عادي. لكنه جوهريٌّ بصدوره عن أَكثر أَدباء اليابان انتشارًا وترجمةً إِلى اللغات العالـمية. روايتُه الثالثة عشرة “العديمُ اللون تسوكورو تازاكي وسنواتُهُ في الـحَج” (370 صفحة – طوكيو 2013) فاقت مبيعاتُها المليون نسخة وباتت مترجَـمَةً إِلى 30 لغة عالَـمية، وهو أَكثر أُدباء اليابان قراءةً في العالم، ومرشَّحٌ كلَّ عامٍ إِلى جائزة نوبل للآدب.
نحن إِذًا أَمام رأْي شبْه صادم من كاتب يَــتداولُ رواياتِهِ الـملايينُ يقرأُونها في لغاتهم الأُمّ. مع ذلك لا يسعى أَبدًا إِلى الترويج لرواياته صحافيًّا وإِعلاميًّا، طالَـما صدورُ كُلٍّ منها حدَثٌ أَدبي يُـنتَظَر وتتصدَّر سريعًا لائحةَ “أَكثر الكتُب مبيعًا”. لذا قد يفاجئُ البعضَ قولُهُ إِنَّ دأْبَهُ إِطلاقُ نصوصه ولا يُقلِقه إِيصالُ معانيها وخفاياها وأَبعادها، كما عبارتُه: “أَتساءَل عـمَّا يَفعل النمْل في الأَيام الـماطرة”، تاركًا لِـمخيِّلة كلِّ قارئٍ تفسيرَ تساؤُله: جِدِّيَّة النملة؟ ذكاؤُها؟ أَو…؟
إِنها العلاقة الجدَلية بين الكاتب وقُــرَّائه: هل يَكتب لهم تبسيطًا شارحًا؟ أَم يكتب وهُمْ يَستنبطون ويَفهمون؟ وما قيمةُ نصٍّ يَنسجُه كاتبُه ويسعى وراء قرَّائه شارحًا إِياه؟
كانت فرحةً كُبرى لـمحرِّرة “الموند” الأَدبية فلورانس بُوشي أَن تَـحظى من موراكامي بـحديثٍ سجَّلَتْه في مكتب اللبناني وجدي معوَّض (مدير مسرح كولِّين الوطني في ﭘــاريس)، وذكَرَت في مقدمة حوارِها معه أَنه “حَدَّد سلَفًا وقتَ الحوار:40 دقيقة فقط”، وأَنه “قَطَّر كلماته كمَن يَـحسب عدَد القطَرات”، لأَنه يُــبْقي العلاقةَ مع كلماتِه في “الانصراف إِلى التأْليف لا التوليف لِلِقاءَات صحافية وإِعلامية”. وما لديه يقولُ حول كتُبه وكتابته يَصدُر قريبًا في كتابه الجديد “مِهنتي كاتبًا” (3 تشرين الأَول المقبل، منشورات “بلفون”-ﭘـاريس).
جوهرُ الكلامِ في الأَدب، شِعريِّــه والنثريّ، كما جوهرُ العملِ الفني في كلّ حقلٍ إِبداعي: أَن يكون الضوءَ الذي يُــنير الطريق لا أَن يرافقَ الـمُتَلقِّي شارحًا له مُغْلَقَات الطريق، وإِلَّا كان العملُ الأَدبي أَو الفني كلامًا صحافيًّا سَرديًّا، شرطُهُ الشَرحُ والتفصيلُ طوال الطريق إِنما ليس فيه ذَرَّةٌ واحدةٌ من إِبداع.
** المعذِرة من قرَّاء “أَزرار” أَن أَنْـحَدر بهم من سَماءِ الكلام الأَدبي إِلى حضيض الكلام السياسي. لكنَّ فكرة موراكامي عن العلاقة بين الكاتب وقُرَّائه (أَن “يَستنْبطوا ويَفهموا”) ذكَّرَتْني بالعلاقة عندنا بين النائب وناخبيه (طيلة 3 أَيام مناقشة الموازنة هذا الأُسبوع) بكلامٍ ثرثار أَفاض به النائب أَمام كاميرات التلـﭭـزيون، وعَبَثًا حاول ناخبوه أَن “يَستنْبطوا ويَفهموا” كلمةً واحدةً من تلك “العنتريَّات” اللفظية، فخابت انتظاراتُهم وتوقُّعاتُهم وضاعت في غَرغَرَاتِ ثرثرةٍ ديماغوجيةٍ
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib