لم ننتهِ بعد، وقد لا ننتهي، من هذا التطبيل لموضوع الكهرباء: “خطة”، “تدابير”، “مناقصات”، “سَنّ قوانين”، “وضع آلية عمل”، “إِصلاح الخلل”، “الشفافية في المناقصات”، “الهدر بالمليارات”،… والأَمر كلُّه كان يمكن حلُّه من زمان بإِصلاح البُنية التحتية وضبْط الجباية وفرض إِجراءات رادعة. يومها كانت الكلفةُ أَقَلَّ والتغذيةُ بالكهرباء أَكثر، من دون هذه التضخيمات بالأَرقام والكلمات والتعليل وتبادل الاتهامات بالتسويف والتخويف بعظائم الأُمور.
نحن محاطون بكل ما هو تضخيم في الادِّعاء والتسميات والأَلقاب: هذا “أُوتوستراد” يمتدُّ من أَقصى عكار إِلى أَقصى صُور وهو بالمعيار الدولي ليس أَكثر من “طريق فرعي” محفوف ببياعي البطاطا والبطيخ. هذا “الشاعر الكبير” وهو ليس أَكثر من نَظَّام ثرثار. هذه “الإِذاعة الأُولى في لبنان” وهي مجرَّد واحدة من شبكة لبنان الإِذاعية. هذه محطة التلـﭭـزيون “الأَكثر مشاهَدَةً” ولا إِحصاءَ رسميًّا يُـثْبتُها. هذه “ﭬـيلَّا فخمة” وهي ليست أَكثر من بيت عادي على بعض تَوسُّع. هذا مَـعْـلَـمٌ “أَثريٌّ قديم” وهو ليس أَثريًّا ولا بأَيِّ معيارٍ وبَراءٌ منه الرومان واليونان والفينيقيون. هذا “الممثل القدير” وهو تعبيرٌ لا نجده لأَسماء الممثلين في العالم. هذه “الجريدة الأُولى” وليس مَن أَحصى مبيعاتها أَو انتشارَها سوى أَهلها ومريديها. هذا “أَفضل مكانٍ للارتياد” وهو أَقلُّ من عاديٍّ بِـمعالِـمه وعلاماته.
إِنها “أَفعل التفضيل”. دائمًا “أَفعل التفضيل”. تحاصرنا “أَفعل التفضيل” في كل مكان وكل إِعلان. كأَننا بتنا شعب “أَفعل التفضيل”: نُضَخِّم الوقائع والتسميات كي نَذُرَّ الرماد في عيون الناس كأَنهم جميعًا سُذَّجٌ ويصدِّقون. نتغنَّى بــالـ”أَوَّل” والـ”أَكبر” والـ”أَكثر” والـ”أُولى” من دون إِثباتات مثْبَتة ولا حقائق علْمية ولا أَرقام منشورة ولا وثائق لامعة ولا أَفعال ساطعة ولا أَعمال واقعة ولا إِجماع على ما ندَّعيه، فنَنْفَلِتُ طُـولًا وعرضًا بكلماتٍ وتعابيرَ وتسمياتٍ أَكبرَ من أَفواهنا كي نَسمعَها نحن ولا يَهُمُّ أَن يسمعَها السوى ويقتنعَ بها.
إِبّان ترجمتي سنة 1972 كتاب “يوم تنهض الصين يهتز العالم” للوزير الفرنسي آلان ﭘـيرفيت، لفَـتَـتْـني خاطرةٌ بليغةٌ أَنّ “جماعات الضفادع في قعر البئْر مقتنعةٌ بأَن وساعةَ الفضاء على وسْع فُتحة البئر، وإِذ تَنُقُّ في ما بينها يتردَّد صدى نقيقِها مُضَخَّمًا لأَن البئْر فارغة. ومتى أَخذَت البئْر تَـمتلئُ بالـمياه يَروح تَرَدُّدُ الصدى يَـخفُّ تدريجًا حتى إِذا امتلأَت البئْر إِلى الـجَمَام اختفَت تردُّداتُ الصدى الـمضخَّمة واكتشفَت جماعات الضفادع أَنَّ الفضاء أَوسعُ بكثيرٍ من فُتحة البئر”. وتَـخْلُص الخاطرة الصينية إِلى أَن فراغَ الـخَواء يَـجعلُ الصدى يضجُّ بين أُناسٍ يَسمعونه مضخَّمًا أَقوى من كلامهم، فيما الامتلاءُ يُـخفي ضجيجَ الصدى حيال تفعيل كلامٍ رصينٍ صداه على حجم صوته بدون “أَفعل وأَخواتها”.
هنا أَفضلُ التفعيل أَجدى من أَفعل التفضيل.
هنا الـمعيار الدامغ بين الـخَـواء والامتلاء.
هـنـري زغـيـب