لأَقلَّ بكثيرٍ مما يجري عندنا، تطيرُ مناصب، ويستقيلُ وزراء، وتَسقطُ حكومات.
فكيف إِذا كان هذا الــ”أَقلُّ” فاحشًا كما عندنا، وقحًا كما عندنا، فضائحيًّا كما عندنا؟
لا يمر يوم ليس فيه تصريحٌ لسياسيٍّ يردّد شعار “ضرورة وقف الهدر ومكافحة الفساد” فيُفْرغُهُ من مضمونه، ويصيح بـ”ضرورة تشكيل الحكومة اليوم قبل الغد”، ويتغرغر بعبارات “لأَن البلاد لم تعُد تحتمل”، ويتلمَّظ بكلمات “الاقتصاد على شفير الانهيار”، حتى يشعرَ السامع عن بُعدٍ أَنَّ هذا السياسيَّ يتحدَّث عن بلدٍ غير بلده، وأَنه يقصد سياسيين فاسدين في بلدٍ آخر، وأَنه هو من أَحفاد ميخائيل رئيس الملائكة الأَبرار.
أَتصوَّر لبنانيًّا في بلدٍ أَجنبيٍّ حضاريٍّ ذي دولةٍ عازمةٍ حازمةٍ حاسمةٍ، ينظرُ من بعيدٍ إِلى بلاده الأُمِّ، فيرى كيف يعيقُ تشكيلَ الحكومة تشاطُرٌ وتسابقٌ وتهالُكٌ على التهام حصصٍ أَكثر، وعلى توزيع حقائبَ وازنة سيادية خدماتية أَكثر، وعلى دومينو طوائف متشدِّدةٍ أَكثر، وعلى توازن بين الكُتَل النيابية مُـختَلٍّ أَكثر فأَكثر حتى تمتلئَ مقاعدُ الحكومة بالذين ينتقلون إِليها في مقاعد النواب، وحتى يتساءَلَ “المؤْمنون الساذجون بالحكم الديمقراطي”: إِذَن مَن يُحاسب مَن؟ ومَن يُراقِب مَن؟ ومَن له سُلطةٌ على مَن؟ طالما أَن النائِبَ رجلَ التشريع قفز هو ذاتهُ ليكون رجلَ التنفيذ وقد يكونُ هو ذاتُه رجُلَ الإِجراء؟
أَتصوَّر هذا اللبنانيَّ البعيدَ في مهجَره البعيد لا يَفهَم كيف أَن وزارةً أُنشئَت لتكافح الفساد لم “تصطَدْ” حتى اليوم فاسدًا واحدًا، مع أَنَّ الإِعلام يكشف يوميًّا، وبالأَسماءِ الكاملة، وبالصوت والصورة، مخالفين ومسؤُولين وفاسدين ما يجعل هذا الكشف إِخبارًا كافيًا كي يذهبَ المخالفون إِلى القضاء.
أَتصوَّر هذا اللبنانيَّ الساكنَ في بلدٍ مضْبوطٍ بـِحُكْم مضْبوط، لا يفهم كيف يكونُ في لبنان دائمًا “راجح اللي سرَق الضيعة وضلُّو رايح”، وليس مَن يضبطُه وليس مَن يعتقلُه وليس مَن يُـحاكمُه.
أَتصوَّر هذا اللبنانيَّ المهاجِرَ لا يستوعبُ أَن يتعالى التشكِّي من الفساد وهدْرِ الوقتِ والمالِ والتحذيرِ من فواجع الاقتصاد، وأَن يصدُرَ هذا التشَكِّي عن أَقطاب البلاد السياسيين والدينيين الذين يُفترَضُ أَنهم هُم حاملو الحلول لانفراج الوضع، وحاملو السوط لـجَلْد العابثين بمصير البلاد. وإِذا كان الحاكمون ذَوُو القرار هم الشَاكين، فمَن إِذًا هُمُ المشكوُّ منهم؟ ولِـمن يشكو هؤُلاء الشاكون كي يُحصِّلوا نتائج شكاواهم؟ وعلى مَن إِذًا ينتفض الشعب فيشْكو إِلى حكَّامه طالما حكُّامه أَيضًا يشكُون مثله؟
أَتصوَّر هذا اللبنانيَّ الـمُراقبَ هذه الـمهزلةَ من بعيدٍ يزأَر غاضبًا: بئْس هذا البلد الذي ضاعَت فيه المعايــير، وانخلَط فيه الشاكون والفاسدون، والمواطنون والحاكمون، وناجحون في مصالحهم فاشلون في مصلحة البلاد، وكفساد أَبناء سدوم وعمورة فسُدوا عندنا لكنهم لم يهلَكوا بل أَهلَكوا البلد بِــإِيغالهم في الفحش السياسي، حتى لم يعُد بينَهُم مَن ينطبقُ عليه قول ” مَن منكم بلا…”، فليس فيهم مَن هو “بلا فساد”، ومَن ليس فاسدًا بينهم فهو مُتغاضٍ أَو متواطئٌ أَو ضعيفٌ أَو ساذجٌ، وفي أَيِّ حالٍ هو ضالعٌ في الفسَاد، مُدركًا كان أَو غارقًا في الجهَالة.
هـنـري زغـيـب