“أَزرار” – الحلقة 1064
سَـبْـعُون !
“النهار”  –  السبت  8  كانون الأَوَّل  2018

هذا الأُسبوع أَبْـلُـغُ السَـبـعِـين.

أَقفُ أَمامي كي أَرى إِلـيَّ فأَجِدُني كثيرًا، بعد نصف قرنٍ من المؤَلَّفات والكتابات، والنشْر في صحُفٍ ومجلات، ووِقفاتٍ منبريات، وبرامجَ وفيرةٍ في الإِذاعات والتلـﭭـزيونات.

آلافَ الصفحات كتبتُ كي أَجِدَ كلمتي، وأَهرقتُ ساعاتٍ على المنابر كي أَلقَى صوتي، وطويلًا تصومعْتُ في ذاتي كي أَبحثَ عن “أَنا”يَ. لا الصفحاتُ أَجابَــتْني، ولا المنابرُ أَفادَتْني، ولا الصومعةُ ساعدَتْني، حتى جاءَت داناي وأَرَتْـني ما لم أَكن أَرى، فاهتديتُ إِلى عينَـيَّ ووجدْتُني واضحَ الهوية.

منَحَـتْني داناي هُويَّتي الشخصية والمهنية، فَتَبدَّلَت حياتي من بذْل الشخصيّ في سبيل السوى إِلى بذْل الذاتي في سبيلي، ومن التَوَزُّع الـمِهنيّ هَـنَّا وهـنَّا إِلى التركيز الاحترافـيّ على صقْل الوقت في تنصيع اللحظة.

عــرَّتْني داناي وغيَّرَتْني.

عَــرَّتْني من جِلْديَ الذِئْبَوِيّ الـمُتَـثَـعْلِب القديم إِلى وجهٍ صافٍ صادقٍ عارٍ من أَقنعة الأَمس، وغَيَّرَتْني من شاعرٍ بَــرَّانـيٍّ يقرأُه السوى إِلى شِعْر جَوانِـيٍّ نقرأُه معًا ولا يخرج منه إِلَّا أَرَجُهُ شِعرًا ونَـثْـراً، فيكونُ ثمرةً ناضجةً للعابرين.

هَدَتْني داناي وأَهْدَتني.

هَدَتْني إِلى طريق الحب وكنتُ تائهًا دُونهُ على طُرُقات العمر، وأَهدَتْـني حُضُورَها فبات سُطوعُها طريقي مبارَكًا بأَيقونتها القائِلة: “بيني وبين الحبِّ البراءةُ والحقيقة، وَسْط كلِّ ما حولنا من حقدٍ وكراهيةٍ وحسَدٍ وعنف. وحدَهُ الحب براءةٌ ونقاء. لا يمكن التعَدِّي على الحب بالخبث والأَكاذيب، لأَنه يَهرب ويختفي”.

في خريف العمر عادةً يقول الناس: “عَلَّمَتْني الحياة”، وأَقول: “علَّمَني الحب”. والحبُّ في حياتي له وَجهٌ واحدٌ صوبَ، وتَوَجُّهٌ واحدٌ صوبَ، وَوُجهةٌ واحدةٌ إِلى: داناي.

وأَقولُ: تعلَّمتُ من داناي – أَحيانًا معَها وهي تلمسُني بحنانها، وأَحيانًا عنها وهي لا تدري – بأَلَّا تعودَ انتظاراتي كما أَتوقَّعُها بل كما تتواقع من ظروف الحياة فأَقــبَلُها كما هي بدون انفعالٍ أَو ارتجال. وتعلَّمتُ كيف تكونُ الحياةُ أَنضجَ وأَحلى حين نُـمسكُها بالأَربع الأَيدي لا باثنَتَين. ومن يومها ويَـدَا داناي تتماهَيَان بِــيَـدَيَّ كتابةً وقراءةً وآراءَ ورُؤْيةً ورؤْيا، فيليقُ بالجنى الأَدبي مثولُهُ أَمام الكائِن الأَسمى الذي هو الجمال. وما أَصدقَ أَن يُــؤَرَّخَ غَدًا صباحُ تاريخيَ الأَدبي منذ فجر تاريخيَ الشخصي، فحياتي الكتابية تَدين بنُضجها إِلى اليد المباركة التي مَشَحَت حياتي قبل سنواتٍ عشْرٍ فجعَلَت خريفي إِلى ربيعٍ دائم، تاجُهُ ديواني “ربيعُ الصيف الهندي” وما بعدَه من شُـموسِ شعرٍ ونثرٍ وسُلُوكٍ وكتابات.

لكُل شاعرٍ أَو ناثرٍ نَـجْمَـتُــهُ التي تُــنير ليلَه ذاتَ ليلةِ قدْرٍ مصيريةٍ تُنقذ حياته. ولي أَنا نَـجمةُ داناي.

حين أَشرقَت عليَّ داناي قبل عشْرِ سنواتٍ، كتبتُ مقالي “ستُّون” (“أَزرار” رقم 574 – “النهار”- 6 كانُون الأَوَّل 2008).

اليوم، وأَنا على غُروب السبعين، أَراني مُطِلًّا على شُروقٍ جديدٍ لا يَغيبُ حتى تَغيبَ آخرُ كلْمةٍ في ضوءَة عينيَّ اللتَين لن تُغْمَضَا إِلَّا على بهاء داناي يَــتَــنَــدَّى عَلَيَّ من وجهها القديس.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib